قرأت هذا الأسبوع ما قلتَه في ندوة صحفية حول التطبيع مع إسرائيل في المغرب، وأنا أتفق معك بنسبة 90 %، على أن التطبيع مع الدولة الإسرائيلية شيك على بياض للاحتلال، وثمن الشيك سيسحب من بنك الدم الفلسطيني، وأنه على المغاربة، سواء كانوا مسلمين أو يهودا، في المعارضة أو الحكومة، ملتحين أو حليقي الذقون، أن يلتزموا "إنسانيا"، على الأقل، بعدم تشجيع إسرائيل على الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية ودفعها إلى السلام عن طريق "محاصرتها" اقتصاديا... أنا معك في كل هذا، لكنني لا أرى فائدة في قولك لأندري أزولاي، كمواطن مغربي قبل أن يكون مستشارا ملكيا: "إذا كنت إسرائيليا فلترحل عن المغرب"... يمكن لك أن تكون مختلفا مع عدد من الناس حول مفهومهم للتطبيع وحدوده وشكله. "التطبيع" نفسه ليس له معيار قار، وما تراه أنت تطبيعا لا يراه آخرون كذلك... مثلا، كان السيد السفياني -وأنا أحترمه كثيرا لأنه مناضل صادق ضحى بالكثير من أجل قناعاته القومية والسياسية- قد هاجمني لأنني نشرت حوارا مع وزير خارجية إسرائيل السابق "شلومو بن عمي"، ورأى أن نشر حوارات، حتى وإن كانت مهنية وليست "إشهارية"، شكل من أشكال التطبيع. وعندما قلت له إن عملنا الصحافي يفرض علينا الاستماع إلى كل الأطراف ونقل كل الروايات، حتى التي لا تتفق مع قناعاتنا، وإن القراء ليسوا أكياسا فارغة يمكن ملء عقولها بأي شيء، قال لي: "يمكنكم نقل تصريحات الصهاينة من الوكالات الدولية في تقارير إخبارية، لكن لقاءكم معهم واستجوابهم شكل من أشكال التطبيع". قلت له: "السيد السفياني، نحن نواجه يوميا ضغوط السلطة التي تريد أن ترسم لنا خارطة طريق العمل الصحافي، وما يجب نشره وما لا يجب نشره وأنت الآن تقوم بنفس الشيء.. فقط السلطة تقوم بذلك باسم الأمن، وأنت باسم "مقاومة التطبيع"، تفرض الوصاية والحجر على العمل الصحافي...".. لا هو اقتنع برأيي ولا أنا اقتنعت، لكن ظللنا أصدقاء... في الحرب العالمية الثانية كان راديو BBC ينقل خطب الزعيم النازي أدولف هتلر، وكان هناك نقاش سياسي وإعلامي جد خصب. كان هتلر يقصف لندن طيلة الليل وفي الصباح تنقل BBC خطبه وخطب تشرشل طبعا، وكانت المؤسسة الإعلامية العريقة ترد على منتقديها بالقول: "من حق المواطن البريطاني أن يعرف كيف يفكر صاحب الطائرات التي تقتل أبناءه كل ليلة... الحق في المعرفة. عودة إلى نقد السيد السفياني لأندري أزولاي.. من حق المناضل القومي أن ينتقد أجندة أزولاي وغير أزولاي، لكن ليس من حقه أن يقول له: اخرج من المغرب. المغرب ملك لكل أبنائه، مهما كانت ديانتهم أو عرقهم أو فكرهم أو تصورهم أو اختياراتهم... هذا هو الفرق بين الشعوب "الأصيلة" والدول اللقيطة التي تطرد أصحاب الأرض من بيوتهم فقط لأنهم لا يعجبونها، أو لأنهم لا يريدون أن يفرطوا في حقهم، كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين. التطبيع مفهوم واسع، وهو موقف أخلاقي وسياسي مثير للجدل، ولا يمكن أن يكون هو أساس المواطنة... محمود عباس يفاوض إسرائيل على ربع فلسطين، وخالد مشعل يطالب بكل فلسطين.. جورج حبش كان يطالب بفلسطين حرة علمانية اشتراكية، وأحمد ياسين كان يطالب بفلسطين إسلامية.. عرفات كان يفاوض إسرائيل في النهار ويمول المقاومة ضدها في الليل... كل هؤلاء فلسطينيون كما أننا كلنا مغاربة... غدا نبعث رسالة إلى عمدة فاس المثير للجدل.