كم كانت فرحة المسكين عظيمة ، وكم كان هول الخبر ثقيلا على ظاهره وباطنه.. فلو قلت أنها فرحة أُمٍّ تجد ابنها الضائع، أو فرحة سجين حان موعد إطلاق سراحه، لكنت شحيحا وبخيلا في وصفي.. أما والأمر يقتضي وصفا ما، فسأقول بكل ثقة أن فرحته كانت كفرحة من بُشِّرَ بدخول الجنة !!فما القصة إذن ؟؟ الحديث إنما تعلق بأحد أصدقائي المدرسين الذين انتشلتهم يد الأقدار من إحدى المداشر الموغلة في النسيج الجغرافي الوعر من إقليمتارودانت، ملتحقا بأسرته الصغيرة بعد ثلاث عشرة سنة من الغُربة القاتلة التي استطاعت أن تقتل في الرجل كل ما كان يمتلكه من مواهب و معارف كان بها مضربا للمثل و منبعا للاستشهاد. ولقد صدق الشافعي القائل: إني رأيتُ وُقُوفَ الماء يُفسدهُ /// فإن جرى طاب، إن لم يجرِ لم يَطِبِ فإذن، إن كان من مثل هذا السجين آلاف النسخ والمصاديق، أولئك الذين يرفعون أكف الضراعة مع كل شهقة وزفرة ،داعين الخالق الالتحاق بأسرهم يوما ما قبل أن يباغتهم " التقاعد" و "مرض النسيان" فيصبحوا عرضة لسفهاء الأزقة ولحديث العجائز…لماذا تدق الدولة نواقيس الخطر صارخة بأعلى صوتها :" تعليمنا في خطر!! " وهي السبب الأول والوحيد في هذا المآل ؟؟ عجيب : ألقاهُ في البحر مكتوفا وقال له : /// إياك إياك أن تبتلَّ بالماء !! كيف يمكن لهذا المنطق أن يستقيم، هذا إن جاز أصلا تصنيف هذه الخوارزمية في خانة المنطق ؟ وكيف يمكن أن يتحمل هذا السجين مَعرَّةَ سياسات الدولة الإصلاحية التي تؤكد كل مرة عجزها التام عن وضع قطار التعليم على سكته الملائمة ؟؟ مرة أخرى جنت هذه "البراقش" على نفسها.. إن أي إصلاح لا يُموضع " هذا المدرس السجين " في مركز وقلب اهتمامه لا يعدو أن يكون حزمة من النوايا الحسنة، أو نبوءة مضحكة من نبوءات "نوستراداموس" الغريبة،أولا باعتباره أساس كل إصلاح تربوي منشود ،ثانيا لأنه الحلقة التي تنتهي إليها سيرورته،ثالثا لأنه الحلقة الرابطة بين التلميذ والرؤية التي يتغياها الإصلاح ككل، وبذلك يكون الوحيد القادر على السماح بتنفيذ مخططات الدولة في المؤسسة التربوية.. أما وقد سُجنَ "المدرسون" بين الحجر والشجر، في أكواخ كاريكاتورية لا تصلح حتى للصراصير، بعيدا عن ذويهم وأهاليهم، فلو امتطى الإصلاح دبابة أو طائرة الشبحالحربيتين فلا يستطيع هذا المسجون استقباله بمزاج ملنخولي سوداوي صنعته سِنِيُّ الغربة والقهر وتكالب المذكرات الوزارية عليه… في معرض قراءته التحليلية للتقرير الأخير الصادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي كتب الدكتور محمد الدريج : ".. إصلاح التعليم،في نظرنا، هو إصلاح بيداغوجي- نفسي- ثقافي- أخلاقي بالأساس وبالدرجة الأولى وهي الجوانب التي همشها التقرير الذي أغرقنا في مستنقع من المعطيات الكمية،وليس الإصلاح ببناء المدارس وربطها بشبكة الكهرباء والقضاء على الاكتضاضوالأقسام المشتركة وإعداد المدرسين وتوفير دورات المياه…فهذه الأمور، هي من التصريف اليومي العادي، الذي يجب أن يوكل للمؤسسات والنيابات والأكاديميات،وينبغي أن لا نفخر بها على مستوى المركز كمنجزات، بل ينبغي أن نخجل من الحديث عنها بعد سِتِّينَ سنة من الاستقلال..".فإذا كان الإصلاح نفسيا ،فالراجح أن الدكتور لا يقصد "نفس " الجماد ،من مقررات مدرسية ومقاعد وجدران..بل القصد هنا يشير رأسا إلى "نفس" الإنسان مدرسا كان أو متعلما..أما كون الإصلاح أخلاقيا، فهذا من قبيل إمكانية دخول الجمل في سَمِّ الخياط !!!وإن كان باب الحلم مفتوحا دائما..فأي إصلاح هذا إذن المنكب على تغيير ألوان وعناوين الكتب المدرسية دون أن يتكلف عناء "السؤال" عن أحوال ذاك المنوط به تدريس مضامينها ؟؟ أيضا ما فائدة خطط تصحيحية تجتر نفس أخطاء الماضي، أليست نفس الأسباب تؤدي لنفس النتائج ؟؟ أليس من باب أولى أن نجفف المستنقعات عوض أداء أكلافباهضة في قتل البعوض كما قال "عزت بكوفيتش" ؟؟ ما أشد خجلي من دولة يُسأل المدرس فيها عن حلمه فيجيب : أريد أن أعيش مع أسرتي تحت سقف واحد !!وكم أخجل من دولة يطير فيها المدرس فرحا كونه حظي بدورة مياه كهبة مقدمة من طرف السكان لمؤسسة تعليمية إنقاذا لماء وجهها !! ما أصغر أحلام المدرسين، وما أحقر متمنياتهم التي استحالت إلى أحلام عصفور مسجون داخل قفص ضيق، ينشد الانعتاق وحده وفقط ..وما أسوء أن تُقَزَّمَ حياة فئات عريضة إلى حد أن يستغني عن كل شيء ويكتفي كحد أدنى بالتملي في وجوه أفراد أسرته الصغيرة، عوض استبقاء صور جامدة لهم في بطن هاتفه الخلوي واستدعائها كلما ضاق عليه طَوْقَا الشوق والحنين.. فلكل مسؤول عن قطاع التربية والتعليم في هذا البلد بصفة مباشرة أقول : لن نستعطفك بشعر الحطيئة لأننا ببساطة نجزم أننا لسنا في زمن الخليفة عمر، وهو القائل- في قصة معروفة – : ماذا أقول لأطفال بذي مَرَخٍ // زُغْبُ الحواصل لا ماءٌ ولا شجَرُ ألقيتَ كاسبهم في قعْرِ أقبيةٍ // فارحمْ عليك سلام الله يا عُمَرُ ولكننا ندعوك أن تتملك الجراءة الكافية لتنصت لنبض الآلاف من المساجين،أولئك الذين غُرِّرَ بهم وصدقوا وعود وأماني الدولة الوردية الكاذبة المغشوشة، وذلك، قبل مباشرة أي إصلاح سيسري عليه ما سرى على سابقيه،هدفه إخفاء التجاعيد الحقيقية عن وجه المنظومة الشائخ والمتهالك..ولا أجد في هذا المقام ما أختم به زفرتي هاته سوى بقول الشاعر: عجوزٌ أرادتْ أن تصير فتيَّةً // وقد نَحَلَ الجَنْبانِ واحدَوْدَبَ الظَّهرُ فسارتْ إلى العطَّار تبغي شبابها//وهل يُصلِحُ العطارُ ما أفسدَ الدهرُ ؟