عادة ما يدرج الحديث عن المسرح المغربي والعربي عموما ضمن مساحات الحوار الذي دار ومازال يدور حول سؤال الهوية بين الأصل والتأصيل، وما جاورهما من ثنائيات من قبيل : الأصالة والحداثة، المعاصرة والتقليدوية، القديم والجديد … ومن هنا كان البحث في تأصيل تجربتنا المسرحية ،بمثابة تجريب لآليات الاشتغال على فهم الذات. خصوصا أن هذا الميدان الفني بالذات يمثل وبامتياز واحدة من لحظات المثاقفة العديدة بين الحضارة العربية ونظائرها الإنسانية، في ظل كونية الإنسانية والعالم. تأريخيا يمكن التسجيل لبداية هذا الجدل بالعام 1847، حين جرى في بيروت أول عرض مسرحي في العالم العربي أنجزه المثقف اللبناني مارون النقاش عن مسرحية «البخيل» لموليير. هذا الحدث الذي أطلق النار في وجه الجماليات العربية التي وجدت نفسها، فجأة في مواجهة مساءلة الذات حول رصيدها الفني والفكري الجمالي. وهكذا فبعد صدمة العروض الأولى وتباين المواقف منها التي تراوحت بين الترحيب والاستهجان، انطلق العرب يسائلون هذا الوافد الفرجوي. هذه المساءلة التي انتظمت بعد ذلك تحت لوائين رئيسيين: الأول يقول، ألا ضرر من الاعتراف بأن المسرح فعل فني جديد تماما على المشهد الثقافي والحضاري العربي، له خصوصياته المميزة وصيروراته التاريخية التي انطلقت من الأرض الإغريقية. بينما يرى الفريق الثاني أن المسرح ليس جديدا إلى هذا الحد، ويستدلون على ذلك بكون الحضارة العربية تتكئ على تراث مهم من الأشكال الفرجوية الشعبية كالبساط وخيال الظل والحلقة والحكواتي وغيرها … التي تمثل نوعا من الاحتفالية المسرحية عاشها الإنسان العربي تحت أشكال وأسماء مختلفة. وبالتالي يحق الحديث عن خصوصية مسرحية محلية داخل تجربة أشمل وأعم هي المسرح الإغريقي والروماني ذو التاريخ والمفاهيم الخاصة . أما بالنسبة لأهل المغرب الأقصى، فقد كان الأمر مختلفا إلى حد ما، باعتبار أن لقائهم بالمسرح لم يخلف تلك الصدمة الكبرى التي حدثت بالشرق. أولا لتأخر تغلغله على المستوى الشعبي حتى هدأت، نوعا ما، نيران الجدل بالبر الشرقي. رغم ذهاب بعض الوثائق التاريخية إلى أن شهادة ميلاد المسرح بالمغرب، شعبيا، تسبقها عروض أولى أقيمت داخل القصور السلطانية…أما ثاني الأسباب فيمكن إرجاعه لعامل نفسي، يتمثل في أن العروض الأولى على المستوى الشعبي جاءت عن طريق الإخوة المشارقة وليس عبر «الآخر»، أي من داخل نفس الذات الوجدانية التي نتقاسم معها نفس الدائرة الثقافية والحضارية . وبالتالي كان الأمر بالنسبة للمغاربة شبه محسوم للقبول ولو بتحفظ، بهذا الوافد الغريب . هكذا كانت لحظة ولادة المسرح المغربي تحمل معها خصوصية تختلف عن نظيرتها المشرقية، وهو ما نتج عنه أيضا خصوصية على مستوى التنظير والعروض . فما هي ملامح هذه الخصوصية ؟ لا مجال لقراءة التجربة المسرحية المغربية إلا إذا استند منهج هذه القراءة على حفر أركيولوجي يستهدف البحث في أصولها وتطورها ومدى تماهيها مع الهوية الثقافية المحلية . أما المنهج السيميائي، فيخلص إلى أن هذه الحركة حققت على مدى عمرها القصير تراكما، كميا ونوعيا، يمكن من خلاله الحكم بأن تاريخ المسرح المغربي هو تاريخ اتصال لا قطائع.هذا التاريخ الذي تبرز فيه ثلاث لحظات كبرى متضامنة ليس الفصل بينها هنا إلا من قبيل الإيضاح المنهجي: أولا : وهي لحظة القراءة الأولى أو محاولة أولية وتدريجية لتذوق المسرح في كليته، شكلا ومضمونا . وهي أيضا الدهشة لاكتشاف الفرق بين الاستعمال التقليدي للغة وتوظيف الجسد والفضاء كما سنته المؤسسات الثقافية التقليدية، وبين التعبير الفني الجديد . بدأت هذه اللحظة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي مع الزيارات الأولى للفرق المسرحية المشرقية ونجومها أمثال: نجيب الريحاني، منيرة المهدية، فاطمة رشدي، جورج أبيض … هذا اللقاء الأولي الذي ترك أثره على الرواد الأوائل للمسرح المغربي، خصوصا بمدينة فاس. رواد لم يعد يذكرهم أحد من أمثال: محمد الزغاري، محمد بن الشيخ، محمدا لقري، عبد الواحد الشاوي، المهدي المنبعي… هؤلاء المقاومون ثقافيا اللذين وظفوا المسرح، تأليفا واقتباسا، لتمرير خطابات وطنية تحث على مقومة الاستعمار والتصدي لمظاهر الجهل والتخلف، وذاك رغم المعارضة التي أبداها بعض شيوخ القرويين، خصوصا عبر الفتوى الشهيرة: « الدليل على حرمة التمثيل ». ثانيا :لحظة الفهم :أنها لحظة سعي نحو تقصي المعنى الحقيقي للنشاط المسرحي من داخل البنية الثقافية المحلية التي تمنحه شرعية الفعل والوجود . فهي إذن البداية الأولى للتحايل على المفهوم الأوروبي للمسرح واستثمار الموروث الفرجوي الشعبي . ولعل الطيب العلج خير من يمثل هذه المرحلة وهذا الأسلوب خصوصا في مسرحياته الأولى… كانت البلاد قد خرجت لتوها من تحت الوصاية الفرنسية، وكان هناك حماس ورغبة في مغربة كل شئ من اقتصاد وإدارة ومؤسسات، وحتى تعابير فنية. فانطلق رجال المسرح بدورهم يبحثون في تدريج الفصحى، وتعريب الفرنسية، وتبسيط العروض والسينوغرافيا لتنسجم مع الخصوصيات الجمالية المحلية. أما الحمولات النصية فكانت تعتمد الخطاب المباشر وتبسيط الفكرة والمضمون. بشكل يجوز أن نقول معه أن عروض هذه اللحظة كانت نوعا من المسرح الساذج الذي يعتمد التقشف شكلا ومضمونا. هذا النوع من المسرح البدائي الذي تسقط عنه الشروط النظرية التي تسبق التأسيس لمدرسة مسرحية فعلية. كان المسرح الساذج هو علامة لحظة الفهم، ويحمل بفطريته دعوة إلى الانخراط في «حفلة المغربة». وإذ نجازف بهذا التعبير فلأن هذه اللحظة تقف في منزلة بين المنزلتين ضمن حالة عامة من فوضى التأسيس. فهي من جهة، حفلة لأن المسرح غدا وليمة جماعية ينهل منها الجميع، وهي من جهة ثانية حفلة مغربة تؤهل في ذاك المنعطف التاريخي لاستجلاء البعد الكوني للهوية الثقافية المحلي .