بمناسبة الذكرى 20 لاغتياله يقلم: عبد الواحد بنعضرا من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا عليه، فما بدلوا تبديلا، الكاتب الذي شهر القلم سيفا بتارا، وألقى كلمته جهارا، وواجه الإرهاب ليلا ونهارا، فرج فودة… في ختام المناظرة الشهيرة (بمعرض الكتاب في 8 يناير 1992) عبّر عن سعادته قائلا: “أنا سعيد بمبدأ ربما تقرّر في هذه المناظرة، وهو أن الحوار هو الحلّ وصدّقوني إن كثيرا من القضايا قابلة للحوار. وأرجو أن يؤمن الجميع بشيء، أنه لا يوجد أحد على صواب مطلق، والآخر على خطأ مطلق إنما هي رؤى (…) لكن ثقوا أنه مع الحوار سوف تكتشفون أن المسألة ليست إسلاما وعداء للإسلام، لا… بل هي رؤية لدولة دينية لم يتطوع أصحاب دعوتها حتى الآن، وأنا ما زلت مصرا على تقديم ما يسمونه بالأيديولوجية السياسية لها التي هي البرنامج السياسي” (مصر بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية، ص. 102). في الجهة الأخرى، عاتب عبد الصبور شاهين “الشيوخ” الذين جلسوا مع فرج فودة للنقاش قائلا: “أنا آسف جدا لوجود مثل هذه الفئة المقزّزة التي تنطق باسم العلمانية… فهي فئة، بلا جذور وبلا فكر وبلا لون، وإن كان لها رائحة فهي رائحة نتنة لا تنبت إلا خبثا ونكدا. وأنا آسف أيضا لتورط مشايخنا الأجلاء في المناظرة مع هذه الفرقة الغوغائية” (نفسه، ص. 123)، رأي شاهين هذا تقاسمته معه ثلة أخرى ممن تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ! طبعا شيطنة الآخر المخالف مقدمة لإقصائه، وبالتالي ضوء أخضر لاغتياله معنويا ثم تصفيته جسديا، ولا يعزب عن بالنا ما قاله يوسف القرضاوي، الذي أعلن أن: “الدعوة إلى العلمانية بين المسلمين معناها: الإلحاد والمروق من الإسلام” (القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، ص. 113). وفي غمرة الواقعة، أيضا، نسي القوم ما يتشدقون به من حديث عن فضيلة الحوار وحسن الجدال، وما يدندنون به من وسطية واعتدال؛ يقول نصر حامد أبو زيد : «وهكذا فالخطاب الديني حين يزعم امتلاكه وحده للحقيقة لا يقبل من الخلاف في الرأي إلا ما كان في الجزئيات والتفاصيل، وهنا يبدو تسامحه واتساع صدره واضحا ومثيرا للإعجاب، يتسع للتشدد والتنطع، بل وللتطرف، ولكن الخلاف إذا تجاوز السطح إلى الأعماق والجذور احتمى الخطاب الديني بدعوى الحقيقة المطلقة الشاملة التي يمثلها، ولجأ إلى لغة الحسم واليقين والقطع، وهنا يذوب الغشاء الوهمي الذي يتصور البعض أنه يفصل بين الاعتدال والتطرف». (نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ص. 45). فضلا عن هذا، فإن كلام عبد الصبور شاهين يثير التساؤل التالي: أين غابت النبرة الواثقة، نبرة الانتصار، وعوضا عنها ألفينا نبرة انكسار؟ ما الذي فعله فرج فودة بالقوم حتى يخرج منهم من يتأسى على المناظرة والمشتركين فيها، فبقدر سعادة فرج فودة بالحوار، نجد شاهين يتقزز، ما أبعد المسافة بين الرجلين، وما أضيق صدر الأخير ! من النقط التي أثارها فرج فودة في هذه المناظرة قضية البرنامج السياسي ومسألة الخلافة، حيث عقّب قائلا: “ما زالت الحجة قائمة وما زالت الأسئلة حائرة سألناكم عن البرنامج السياسي أو الإيديولوجية التفصيلية فاعترفتم بأنها لم توضع(…) أيضا ألقينا إليكم بحجة التاريخ وسمعنا أستاذنا الجليل(…) محمد الغزالي (…) قال: منذ ألف وثلاثمائة عام بعد الخلافة الراشدة كانت فترة فقدت فيها صفة الرشد، وقال لا يضر حتى إذا كان الحاكم مغتصبا يُغفر له أنه أقام شرع الله (…) 1300 عام وتعترفون معنا أنه لم يكن خلالهم الحكم الذي ترون أنه نموذج، فهذه حجة التاريخ (…) فهل مطلوب من الشعوب أن تسير بغير هدى واضح…” (مصر بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية، ص. 86-87). لم يسكتوه بالقلم أو اللسان، فقرروا إخراسه بالرصاص، فعلا كما قلت يا فودة: “أقلام الشرفاء لا تخاف، واللجوء إلى القتل إعلان لإفلاس العقل، والذي يحتمي بالمدفع في حواره جبان، والجبناء لا يخشاهم إلا الجبناء، والشجعان وحدهم يرثون الأرض، والرحماء وحدهم يبنون المستقبل، وفي البدء كانت الكلمة وفي الختام تكون، وإذا كان مطلقو الرصاص قد ارتكبوا جرما، فإن من يزايدون عليهم في الأحزاب السياسية والصحف الدينية يرتكبون جرما أكبر، ومن يخافون منهم اليوم يرتكبون جرما أكبر وأكبر” (نكون أو لانكون، ص. 71). فرد أعزل، إلا من قلمه، يعجزون عن مواجهته، لماذا؟ لأنه كان يخاطب العقل ويخاطب في الإنسان إنسانيته، أما خطابهم فيتوجه للغرائز، للاعقل، لتحريك عدوانية الإنسان ضد؟ وضد؟… وضد فرج فودة “فاليوم الذي لايصلني فيه تهديد منهم (عمر ضايع يحسبوه الناس علي) كما تقول أم كلثوم، والصباح الذي لا تكتحل عيناي فيه بهجوم من تياراتهم دليل قصور في سعيي وتقصير في جهدي” (فرج فودة، الإرهاب، ص. 11). في 8 يونيو من نفس العام (1992) نفذوا جريمتهم على أيدي أميين لم يقرؤوا حرفا واحدا للرجل؛ هي “العقول المستقيلة”، لا تفكر، يقرّر لها الآخرون ويرسمون لها الطريق، وفي غيّهم هم يعمهون ! : “ويا أيها القارئ بعد زمان طويل، إقرأ لنا وتعلم كيف يكون الإنسان موقفا، وكيف نحتنا عصر تنوير جديد بأقلامنا، وكيف كانت الكلمات أقوى من الطلقات، وافهم معنا ما فهمناه من حكمة الله العلي القدير، حين شاء أن تكون أولى كلماته في الإنجيل “في البدء كانت الكلمة” وفي القرآن “إقرأ”. أيها القارئ بعد زمان طويل… إقرأ…” (فرج فودة، نكون أو لانكون، ص. 7). [Bookmark and Share]