[كيف تحولت أزبال الحمامة البيضاء إلى صراع سياسي] التدبير المفوض لقطاع النظافة بتطوان، يدخل نفقا مسدودا قد لا يرى النور قريبا، النفق الذي كان البعض يعتقد أنه قصير بدأ يطول أكثر فأكثر، وغدا الخروج منه صعب للغاية. هل كان الأمر فعلا يتطلب التخلي عن الشركة التي تديره لكونها أخلت بالتزاماتها؟ أم أن الأمر صراع سياسي لا أقل ولا أكثر كان مناسبة “لاستعراض العضلات”؟ ما الذي أخلت به الشركة المنتهية صلاحيتها اتجاه المدينة، ومن كان يحميها أو يقف وراءها؟ لماذا اختيار شركتين بديلتين وبمبلغ مالي كبير جدا طلبت الشركة السابقة ربعه لإصلاح المشكل فحرمت منه؟ لكن السؤال العريض لأهالي تطوان هو متى يتخلصون من أكوام الأزبال التي تتجمع بأبواب منازلهم، وأوعية القمامة المكسرة والمتلاشية، دون أن يكلفهم ذلك مزيدا من الالتزامات؟ مرحبا «تيكميد» هاته أزبالنا ! من أكبر المشاكل التي واجهت الجماعة الحضرية لتطوان خلال بداية الألفية الجديدة وبعد توحيد المدينة، هو جمع النفايات المنزلية وتوفير خدمات في المستوى لهذا القطاع. وازدادت حدة المشكل مع انطلاق سلسلة من الإضرابات الوطنية والمحلية لعمال النظافة والجماعات المحلية، فوجد المسؤولون أنفسهم حينذاك ملزمون بالبحث عن حل يقلل من سخط المواطنين، وبأقل الأضرار الممكنة. لم يتأخر مجلس المدينة في بدء الحديث والنقاش عن تفويت القطاع لشركة خاصة، مما أثار حفيظة العمال خاصة من غير المرسمين، وهم يعتقدون أن الجماعة ستتخلص منهم بتفويتهم للشركة المفوضة، ما فتح الباب على رياح أخرى لم تكن في الحسبان كان على المجلس تحملها والبحث عن باب قوي لصدها. النقاشات المتكررة مع النقابات وممثلي العمال أفضت إلى اتفاق مشترك، يقضي بترك الحرية للعمال في اختيار مستقبلهم، من أراد الإلتحاق بالشركة فله ذلك، ومن أراد البقاء في «أحضان» الجماعة فله ذلك أيضا. لم يبق المشكل العمالي مطروحا وبدأ الإعداد لكناش التحملات وتهييء الرأي العام لذلك، والذي كان يعتقد أن دخول شركة خاصة سيحمله تكاليف مباشرة، قبل أن يبدأ الشق السياسي في الموضوع وإدراج النقطة في جدول أعمال إحدى الدورات، منتصف سنة 2005 حيث اشتد النقاش وارتفع سهم المزايدات بين التجمع الوطني للأحرار الذي كان مسيرا للمجلس والعدالة والتنمية المتواجدة بالمعارضة، والتي عارضت كليا هذا التفويت واعتبرته تحملا كبيرا للجماعة، وإضرارا بمصالح الساكنة وقيل حينذاك «اللي ما يقدرش يجمع الزبل يمشي فحالو» في إشارة إلى رئيس الجماعة آنذاك رشيد الطالبي العلمي. الأغلبية المريحة التي كان يدار بها المجلس السابق جعل المشروع يمر بالأغلبية، حيث فوت القطاع الذي كان يسير بحوالي الملياري سنتيم، لشركة «تيكميد» الإسبانية بمبلغ أربعة ملايير سنتم، مع مجموعة التزامات على رأسها تجديد الأسطول وتوفير كفاية من العمال وغير ذلك.. استمرت حملة العدالة والتنمية خارج جدران المجلس بتوزيع بيانات تدين فيها التصويت على التفويت، فيما انتشى التجمع الوطني للاحرار بإنجازه، وهو يؤكد أن الصفقة التي تمكن من عقدها هي أرخص صفقة على المستوى الوطني وأن مدينة تطوان ستصبح فعلا «حمامة بيضاء» بما ستقوم به الشركة. وبقي السجال والنقاش داخل وخارج المجلس لشهور في هذا الشأن بين الطرفين المذكورين. مع أول أيام صيف 2006 نزل للشارع أصحاب البذل الخضراء والصفراء، عمال غالبيتهم شباب بلباس جديد ووسائل عمل جديدة، تزامن ذلك مع الزيارة الملكية لتطوان، وكانت الانطلاقة من وسط المدينة حيث تجمهر المئات من المواطنين يشاهدون عمال النظافة «النظيفين» في هندامهم ووسائلهم، وهم الذين اعتادوا رؤية عامل النظافة بلباس أوسخ من الأزبال التي يجمعها بسبب الإهمال الذي كان يعانيه من لدن المسؤولين. شاحنات جديدة وأخرى تمت صيانتها وصباغتها حتى بدت كأنها جديدة، أوعية جديدة تملأ مختلف الأحياء انطلق وضعها هناك في نفس الفترة لتبدأ عملية الجمع بالطريقة الجديدة، مع شركة اعتقد الجميع أنها ستكون بديلا حقيقيا وأحسن من الجماعة التي كانت قد وصلت إلى أسوأ مراحلها. أزبال الصراع السياسي 2006 حتى 2009 كان العصر الذهبي للشركة المفوضة، وكان أيضا عصرا نظيفا لجل أحياء تطوان، فقد كان العمل ليل نهار وبإمكانيات مقبولة رغم بعض الأخطاء المحدودة جدا، خاصة في الفترة الصيفية التي يتضاعف خلالها عدد المقيمين بالمدينة، وكذلك تواجد جلالة الملك بها، فكانت الشركة تلجأ غالبا للرفع من عدد العاملين، حتى تتمكن من تجاوز النقص الحاصل هناك. لم يكن أحد يتوقع أن تطوان في جزئها الحديث وبين أسوار مدينتها العتيقة، ستصبح نظيفة بهذا القدر وسيصبح جمع الأزبال منظما خلال الفترة الليلية، مع عمل للكناسين والمراقبين على طول النهار، وحتى خلال أعياد الأضحى التي عاشتها الشركة بتطوان، كان إنجازها متميزا وكانت تجمع الأزبال والأسقاط وحتى الجلد الذي يتخلص منه المواطنون، في غضون 24 ساعة الموالية على أقصى تقدير. 2009 كانت سنة انتخابات بالمغرب، الشركة لم تغير من عملها واستمرت كما كانت من قبل بنفس طريقة العمل، لكن تغير التشكيلة السياسية لاحقا هو النقطة التي ستفيض الكأس، وستجعل الأمور تنقلب رأسا على عقب. فلعل المسؤولون الجدد كانت لهم «حسابات سابقة» مع الشركة المفوض لها وقد يكون العكس، وبان الشركة هي من لها حسابات مع من كان بالمعارضة. منذ الأشهر الأولى بدت علامات التوتر بين الطرفين، التوتر الذي كان يتبين على أرض الواقع من خلال تراجع الخدمات، وارتفاع نسبة إضرابات العمال التي كانت في البداية محدودة، ولتصبح لاحقا مفتوحة ولعدة أيام، في الصيف كما في الشتاء بدعوى عدم حصولهم على حقوقهم، ومطالبتهم الجماعة بالتدخل لهذا الغرض. الجماعة كصاحب التفويض كانت معنية بكل تلك المشاكل حتى وإن كانت بين العمال والإدارة، وفي كل مرة تتدخل لحل بعض الأمور العالقة بين الطرفين، تلتزم الأطراف الثلاثة بمجموعة التزامات لكن سرعان ما تعود الأمور إلى نقطة الصفر، ويعود العمال إلى إضرابهم والمدينة إلى أزبالها. في كل مرة تدعي الجماعة أن هناك أياد خفية وراء تلك الإضرابات، وأن هناك جهات سياسية هي التي تقوض الحوارات والاتفاقات، وأنها تستغل العمال كما الشركة لتأزيم الوضع وجعل الجماعة في موقف حرج، اتجاه المواطنين الذين لا يهمهم من كل هذا سوى جمع الأزبال ونظافة أحيائهم. الصراع السياسي بدأت بوادره منذ منتصف سنة 2010 وبعد ذلك بدأت وتيرته ترتفع شيئا فشيئا، ليصل أشده صيف 2011 مع إضراب مفتوح للعمال دام عدة أيام، وصلت معه المدينة إلى مرحلة الخطر وبدأت بعض الأمراض تظهر وتعرض الناس للسعات الذباب والبعوض، فتم توقيع اتفاق هش مرة أخرى لعبت فيه الزيارة الملكية الدور الأكبر في عودة العمال إلى عملهم، وجمع أطنان من الأزبال المتجمعة خلال الأيام السابقة بالأحياء والمستشفيات وغيرها. وقد بدا منذ الوهلة الأولى ان الاتفاق هش للغاية وأنه «على وجه الزيارة الملكية» عاد عمال تيكميد لارتداء البذلة الخضراء، ليعودوا لنقطتهم السابقة فور انتهاء الفترة الصيفية. الأشهر الأخيرة لسنة 2011 كانت قمة التوتر، إضرابات متتالية وتطاحن في «حرب باردة» بين أطراف مختلفة، المسيرون برئاسة العدالة والتنمية تتهم معارضتها الحالية بذلك، وتشير مباشرة لرشيد الطالبي العالمي، متهمة إياه بالضلوع في تلك الإضرابات والتوترات المرتبطة بذلك، فكانت البيانات والبيانات المضادة، الوقفات الاحتجاجية ضد الأزبال والأخرى ضد من وقف مع الآخرين، كانت هناك «مسرحية» وأحداث مثيرة على طول تلك مدى الأشهر الثلاثة الأخيرة، تبادل خطير للتهم بين الطرفين الأساسيين التجمع الوطني للأحرار مسير الأمس ومعارض اليوم والعدالة والتنمية معارض الأمس ومسير اليوم. الطالبي حضر سريعا من الرباط ذات مساء وفي ذروة إضراب العمال، لينظم ندوة صحفية مستعجلة استبعد خلالها أية علاقة له بإضرابات «تيكميد»، كاشفا بعض ما أسماها خبايا التعاملات السرية بين الجماعة والشركة، وبعض الجهات من داخل الجماعة من بينهم موظفون ومستشارون. فيما العمال يتهمون الجماعة مباشرة بما يحدث ويحملونها وزر عدم حصولهم على أجورهم، وتعويضاتهم التي طالبوا بها قبل ذلك، حيث تأخرت الجماعة في تمكين الشركة من جزء من مستحقاتها، مما دفع إدارة «تيكميد» إلى إشعار عمالها بعدم تمكنها من آداء أجورهم نتيجة ذلك، ومن تم انطلقت شرارة أطول إضراب وآخره، والذي حول تطوان إلى مزبلة لولا تدخل جهات عليا لكانت الكارثة. أزبال تطوان «قضية وطنية» «أزبال تطوان» تحولت إلى قضية سياسية، بل وصلت حد قضية وطنية بعد تدخل وزير الداخلية. إحدى عشر يوما من الأضراب، دفعت بالدولة للتدخل لجمع الأزبال، فحل ليلة الجمعة 23 دجنبر وزير الداخلية بتطوان مرفوقا بمسؤولين سامين في إدارة الدفاع، جاء ليطرح آخر حل ممكن قبل التدخل ب «جدية» في الموضوع. مصدر حسن الاطلاع أكد للجريدة بوادر ظهور بعض البكتيريات والفيروسات، المنتجة لمرض الكوليرا الذي بدأت فعلا بعض أعراضه تظهر، وهو ما جعل السلطات مركزيا تأخذ الأمر بجدية، بعد أن عجزت السلطات الولائية ومعها الجماعة على الوصول إلى حل. البعد السياسي للمشكل، تبين ذات الجمعة مساءا حينما دعت شبيبة العدالة والتنمية، ومعها بعض الجمعيات المحسوبة عليها، لحملة تنظيف لشوارع المدينة. تدخل خلال ذلك عمال «تيكميد» لمنع الجرافات من ولوج وسط المدينة للمشاركة في تلك الحملة، قبل أن تتدخل شبيبة «الحزب الحاكم» بقوة، وتقطع الطرق لتجبر المواطنين على «مساندتهم ضد عمال النظافة». المصالح الأمنية التي حاولت التدخل لفتح الطريق ومنع الاشتباك، ووجهت بعبارات وتهديدات غير مسبوقة لبعض أعضاء حزب المصباح، الذين هددوا مسؤولين أمنيين بابن كيران، مدعين أنهم على اتصال به وسينال كل واحد منهم جزاءه. الجماعة التي وجدت نفسها وسط ضغط كبير بين مطرقة السلطات محليا ومركزيا، وبين سندان المواطنين والعمال والرأي العام، لم تجد بدا سوى أن تعلن يوم السبت 17 يناير 2012 قرارا بفسخ عقدتها مع الشركة المفوض لها، وبالتالي تدبير المرفق عبر الوكالة، القرار المتخذ في دهاليز الجماعة لم يخرج في موقف رسمي، بل خرج على شكل بيان لحزب العدالة والتنمية وزع بأبواب المساجد يوما قبل هذا التاريخ. ليبقى التكهن مفتوحا على جميع الاحتمالات، هل ستقبل السلطات الوصية بذلك أم لا؟ وهل يمكن العقد الذي يقول عنه رئيس الجماعة الحالي دائما إنه لصالح الشركة، أن يفسخ بهاته الطريقة ويصبح ساريا؟ سريعا تبين أن سلطات المدينة وعلى رأسها الوالي محمد يعقوبي، يساند هذا الموقف بل سارع ليكون الرجل القوي في تدبير هذا الملف الذي دارت تفاصيل الإعداد له بطريقة سرية وبين عدد محدود من الأشخاص، منذ الوهلة الأولى اقترح يعقوبي بأن يدبر القطاع بين أكثر من شركة، بين شركتين أو أربع كحل للقضاء على مشكل الأزبال، اجتماعات ماراطونية ولقاءات سرية وعلنية أدت إلى توافق حول شركتين يقومان بتدبير جزءين من المدينة وفق تقسيم «الأزهر» و«سيدي المنظري»، ليتم الإعلان عن طلب العروض الخاص بهذا المرفق ضمن مجموعتين تخص المنطقة الأولى وأخرى يخص المنطقة الثانية. عشر شركات بما فيها تيكميد، التي سحبت ترشيحها قبل يوم من فتح العروض، تنافست لأجل تدبير القطاع. فتح الأظرفة تأخر طويلا في بحث عن «توليفة» لهاته الولادة العسيرة، واستبعادا لأي تسرع أو خطأ قد يعيد الأمور لنقطة الصفر، فتحت الملفات التقنية وبعدها الملفات المالية، دراسة مقتضبة للملفات أعطت الأولوية لشركات جيوبرو ميكومار وSita Baida ثم شركة SOS وهم أصحاب أحسن العروض التقنية والمالية المقدمة حسب تقرير اللجنة المختصة. الإعلان المفاجئ عن تلك الشركات خلخل الأمور بعض الشيء، وفتح الباب على مصراعيه للإنتقادات سواء من لدن المعارضة أو من لدن الرأي العام، خاصة وأن ثمن الصفقة يصل 60 مليار سنتم، بعد أن كانت «تيكميد» تدير الأمور ب 40 فقط، وكانت محط انتقادات بل ومعارضة من طرف المجموعة المسيرة اليوم. المكتب المسير للجماعة لم يكن كل أعضائه على علم بما «يطبخ» في هذا الملف، كذلك بالنسبة للفريق المشكل للأغلبية، الأمر الذي دفع برئيس الجماعة للبحث عن مخرج «يزكي» استبدال الشركة السابقة بأخريين وبثمن يزيد عن 50 ٪، فاستدعى ليوم دراسي خاص ومغلق، يحضره المستشارون الجماعيون ومسؤولو الأحزاب السياسية المشاركة في المجلس، ويتعلق الأمر بالعدالة والتنمية، الاتحاد الاشتراكي كشريكي التدبير والتجمع الوطني للاحرار المعارض، حيث قدمت تقارير ومقترحات ذهب ت في غالب يتها نحو الاحتفاظ بشركة «تيكم يد» لكن مع مراجعة كناش التحملات وعدم المغامرة بشركتين جديدتين ومبلغ مالي كبير… الكرة اليوم في يد المجلس الجماعي لتطوان وسلطات المدينة، التي يبدو أنها قررت فعلا ما ستفعله، ولعل الشركتين المعنيتين يستعدان فعلا لبدء العمل في غضون الأيام القليلة المقبلة، وسط جدل وسجال بين الفرقاء السياسيين وبعض الجمعيات المدنية والبيئية، لكن يبقى الطرح الذي يعلو على الجميع هو هل تتمكن الشركتان من إنقاذ الأهالي من كارثة الأزبال المتزايدة، أم أنها ستكون مجرد سحابة صيف عابرة، تشتغل بداية وتعود لخمها لاحقا..؟ [Bookmark and Share]