AHDATH.INFO بعد انتهاء عمليات الانتخاب وفرز الأصوات وإعلان النتائج، أضحى الاهتمام منصبا على الحكومة المقبلة وكيف سيكون لونها وما هي السيناريوهات الممكنة التي ستؤدي إلى تشكيلها، وقبل تقديم وجهة نظرنا في هذا الموضوع، لا بد من إبداء بعض الملاحظات، والمتعلقة أساسا بارتفاع نسبة التصويت مقارنة مع الاستحقاقات الماضية وما دلالة هذا الارتفاع، وكذا التحديات التي تنتظر الحكومة بعد تشكيلها، على اعتبار أن استحضار هذه الملاحظات هو شرط ضروري عند الحديث عن هذا السيناريو أو ذاك. أعتقد أن ارتفاع نسبة المشاركة إلى 50 في المائة لأول مرة منذ انتخابات 2002 يعزى إلى شيئين اثنين، فهناك من جهة، البرنامج الانتخابي المغري للأحزاب الفائزة، اللذان رفعا سقف عرضهما عاليا، الشيء الذي أغرى شريحة عريضة من المواطنين، سبق أن أعلنت – منذ سنين عديدة- عن طلاقها من صناديق الاقتراع، وفصمت عرى الثقة بينها وبين العمل السياسي بشكل عام، بعدما توالت الضربات على قدراتها المعيشية وأصابها الإحباط من مدى قدرة الحكومة المنتهية ولايتها، هي الأخرى، على تقديم حلول واقعية في التعامل مع الأزمة المهيمنة والتي ما زادتها كورونا إلا تعقيدا واستفحالا، وقد بدا أن الأحزاب الفائزة اليوم، قد اشتغلت كثيرا على هذه المعطيات، وقدمت عرضا ذكيا، غازل انتظارات المواطنين طفح بالعديد من وسائل الإغراء السياسي، حتى أفلح في جلب اهتمام فئات جديدة من المقاطعين وأقنعهم بضرورة التمسك بحبل الأمل، عن طريق العودة إلى صناديق الاقتراع من جديد. أما المفسر الثاني لارتفاع نسبة المشاركة، فيعزى من جهة ثانية، إلى رغبة الشعب في توجيه رسائل احتجاج مباشرة إلى الحكومة ودعوتها إلى الرحيل، بعد تفاقم عجز "رأسها" على المبادرة إو إقناع المواطنين بخطاب يحمل شيئا جديدا، فكان توجه فئات أخرى إلى صناديق الاقتراع، بدافع واحد، هو "معاقبة" قيادة الحزب الملتحي، التي خذلت انتظارات المواطنين، وركنت إلى وهم الثقة الزائد، مستهينة بذكائنا الجماعي وكأن الشعب منديل من ورق في جيوبهم. فكانت السقطة المدوية والنكسة التي فاقت كل التوقعات. انطلاقا من هذه المعطيات، أعتقد أن الحكومة القادمة هي أمام رهانين كبيرين، لا بد أن تأخذهما بعين الاعتبار. الأول هو الإبقاء على حبل المصالحة الذي ربطه المواطن من جديد مع صناديق الاقتراع، وبالتالي إعطاء العمل السياسي بعدا آخر من المصداقية و"المعقول" وهو شعار حزب التجمع الوطني للأحرار، قائد فيلق الأغلبية اليوم، فالحكومة المرتقبة، هي المسؤولة اليوم، عن تمتين حبل الثقة هذا أو قطعه إلى الأبد - وهو ما لا نرجوه لبلادنا على أية حال-. أما الرهان الثاني، والذي له ارتباط بسابقه، فيتعلق بإعطاء سقف زمني واقعي للوعود المغرية، التي كالتها هذه الأحزاب في عرضها الذي قدمته للمواطنين، أقول هذا، انطلاقا من قناعتي، بأن لهذه الحكومة ظرف استثنائي خاص، يتعلق أساسا بازدياد حدة الأزمة الاجتماعية، وارتفاع درجة الإحباط، وارتفاع موجة الاحتجاج الشعبي، وبالتالي فالأمر لن يكون سهلا أبدا، ويجب التعامل مع الوضع بواقعية وحزم وتبصر كبير. يمكن الإشارة أيضا، بعد هذه الرهانات، إلى التحديات التي تنتظر هذه الحكومة وهي متعددة، منها أولا، الإسراع بوضع استراتيجية المواجهة مع " الفيروس" القاتل الذي مازال متربصا ببلادنا، ويتحين فرص التراخي للرفع من وتيرة الفتك والإجهاز على الأرواح، أما ثاني هذه التحديات، فيتعلق بالخطط الاقتصادية والاجتماعية، اللازم وضعها للتخفيف من الآثار الموجعة لهذه الجائحة، سواء بالنسبة للواقع المعيش للأغلبية الساحقة من المواطنين، أو بالنسبة للانعكاسات المدمرة التي طالت النسيج المقاولاتي الذي دخل هو الآخر إلى غرفة الإنعاش وبات عيشه متوقفا على أنابيب التنفس الاصطناعي، أما التحدي الثالث، فيتعلق بكيفية الأجرأة الفورية لمضامين النموذج التنموي وميثاق التنمية المنبثق عنه، وهو كما يعلم الجميع، مشروع وطني كبير، يرعاه الملك شخصيا، ويفترض في البرنامج الحكومي أن يكون متماهيا ومتطابقا مع ما جاء فيه من توصيات، حتى لا يتحول إلى حبر على ورق، فقدر هذه الحكومة إذن، أن تكون بالنسبة للنموذج التنموي حكومة "أجرأة". أما التحدي الرابع، فيتعلق بالمنعطفات الجديدة التي عرفتها قضيتها الوطنية وعلاقتنا بعدد من الدول في هذا الإطار، فرغم القول بأن وزارة الخارجية من الوزارات السيادية بالبلاد، فهذا لا ينفي مسؤولية الحكومة أيضا، في رسملة التفوق الهام الذي حققته الدبلوماسية المغربية على مستوى دحض مزاعم الخصوم ودحر أطروحاتهم، من خلال حصد اعترافات دولية جديدة بسيادة المغرب على مناطقه الجنوبية وحشم مزيد من التأييد الدولي لموقفه، فالحكومة القادمة، مطالبة من جهتها، بدعم هذا المجهود الدولتي، ومأزرته بحشد تعبوي شامل، عن طريق بلورة خطط موازية للترافع، يشجع فيها المجتمع المدني ومراكز البحث والنسيج المقاولاتي، فالكل مطالب بالتحرك لكسب معركة توشك بلادنا حسمها. يمكن القول، بالنظر إلى كل هذه التحديات، أن الحكومة المقبلة ستكون "حكومة تكليف بامتياز"، وقبل الإدلاء بوجهة نظر حول التحالفات الممكنة، لا بد من الإشارة أيضا إلى مسألتين اثنتين. الأولى، أن رئيس الحكومة المعين، لا ينتظر منه بتاتا التباطؤ في تشكيل الحكومة، التي على العكس، يجب أن تخرج إلى حيز الوجود الفعلي في أقرب وقت ممكن، بدون أي " بلوكاج "، أخذا بعين الاعتبار، كل التحديات التي ذكرنا، فالفيروس لن ينتظرنا، وحجم التطلعات الشعبية لم يعد لها طاقة على المزيد من الصبر، والوضع الاقتصادي " واقف" ويحتاج لمن يدفعه، ولأنها يجب أن تكون حكومة فعالية، فيجب أن تكون هذه الفعالية شاملة لكل شيء، حتى في الزمن الذي يستغرقه النقاش قبل تشكيلتها. ثانيا، على هذه الحكومة، أن تكون حكومة نجاعة وكفاءة، ومن هنا، فإن أولى الأختبارات المطروحة أمام رئيس الحكومة المعين لكسب هذه النقطة، تتمثل في الكيفية التي سيدبر بها أمر التحالف المؤدي إلى تشكيل الحكومة، فإما سيزيد من صبيب الأمل، أو العكس هو الصحيح، إذ في الاستحقاقات السابقة، كان تضخم عدد الحقائب الوزارية، أول نقد تتعرض له الحكومات غذاة تشكيلها، وكان تعدد القطاعات، يحولها في الغالب إلى حكومة ترضيات وليس حكومة كفاءات، ربما لافتقادها إلى الشرط الموضوعي الذي يحول بينها وبين ذلك، وهو وجود أغلبية قوية، ومريحة، ومنسجمة. أما اليوم، ومع النتائج المحصلة، فيبدو أن هذا الشرط قد انتفى، ولم يعد هناك أي مبرر أمام الرئيس المعين للاستعانة بمنهجية الترضيات أو المكافآت أو الرضوخ إلى منهجية الابتزاز أو الترضية، وإلا فإن الكيفية التي سيدبر بها هذه القضية والطريقة التي ستخرج بها الحكومة إلى الوجود، كافية لبناء انطباعنا عن الطريقة التي ستسير بها الحكومة نفسها، وسنحكم ساعتها، هل الأمل في التغيير والقطع مع ممارسات الماضي حقيقة سنعيشها و"معقول" سنراها يمشي على ارض الواقع، أم سندخل من جديد في حلقة التبريرات ونفق تعليق الفشل على جملة: "معطيات المرحلة تقتضي...". لكل هذه الأسباب أعتقد أن تشكيل الحكومة المرتقبة يجب أن يكون مبنيا على تحالف رئيسي مشكل من الأحزاب الثلاثة المصنفة الأولى في ترتيب عدد القاعد حائز عليها كل حزب، وأقصد بذلك، كل من حزب التجمع الوطني للأحرار بالطبع، باعتباره قائد التحالف ثم حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة، للأسباب التالية: * أولا عدم وجود خلافات مذهبية بين هذه الأحزاب التي لم يسبق أن سجل بينهم وجود تشنجات أو تلاسنات معينة، ولم يسجل عليهم، الزج بأنفسهم، في خضم أزمات أو خصومات معنية، بل على العكس كان تاريخ العلاقات بينهم أو مع بعضهم، غير صدامي بالمرة، وهذا ما يعزز رصيد التفاهم وإمكانية تحالفهم بدون مشاكل. * ثانيا، أنها أحزاب متقاربة في المرجعيات والاختيارات الاقتصادية والمقاربات الاجتماعية وهذا شرط هام في مطلب الانسجام. * ثالثا، يبدو أن المقاعد التي حصلت عليها متقاربة إلى حد ما، وليس هناك هيمنة مطلقة لأي حزب، الشيء الذي سيعزز فرضية التوافق. * رابعا، هناك الآن النموذج التنموي الذي يقدم تصورات وأفكار عامة وشاملة، لخطط العمل الحكومي، وبالتالي سيكون هامش الخلاف بينهم حول برامج العمل ضيق جدا، ربما سينحصر النقاش فقط في تقدير الأولويات * خامسا، وهو الأهم، هذا التحالف، سيقودنا إلى تحقيق المطلب الشعبي الذي دائما كان الفيصل في نقد الحكومات أو تأييدها، وهو التقليل من عدد الحقائب الوزارية، وتدشين عهد حكامة استوزارية جديدة، تقوم على تقليص عدد الوزراءعبر تجميع القطاعات، ضمانا للانسجام والفعالية وعدم تبعثر المسؤولية وتشتيتها، فكلما كان التحالف منحصرا في عدد قليل من الأحزاب، كلما كانت هناك قابلية أفضل للتقليل من عدد الحقائب والعكس صحيح، إذ التحالفات الممتدة عادة ما تدخلنا في دوامة الابتزازات والمزايدات والترضيات. * سادسا، توفر هذه الأحزاب بثلاثتها على مقاعد كافية لتحقيق أغلبية مريحة، زيادة على الانسجام الظاهر بينها، لا يترك لها، مبررا في توسيع قاعدة تحالفاتها، لأن ذلك معناه توسيع التشكيلة الحكومية بدون عائد معقول، مع ما يستتبع ذلك من ازدياد في النفقات والتكاليف العمومية، وهذا ما يتنافى ومطلب الكفاءة والنجاعة والحكامة الذي نتطلع إليه مع الحكومة المنظرة التي رفع منذ البدء قائدها شعار "المعقول ولا شيء غير المعقول". * سابعا، لا أفهم مبرر من يرون بإمكانية اختيار "البام" الاصطفاف في المعارضة، إذ غاية أي حزب، منطق وبداهة، هو التنافس من أجل اقتسام السلطة أو على الأقل المشاركة في ممارستها، من أجل كسب إمكانية تحقيق الوعود التي كالها للمواطنين، فهل الحزب يتنافس للحصول على مقاعد متقدمة من أجل الحكم أم من أجل المعارضة، وهل ال "بام" مستعد للتضحية بهذه المرتبة المتقدمة التي حاز عليها، وبهذه الشروط المتوفرة للعمل مع أحزاب لا خلاف له معهأ، ليبقى " حزبا معارضا"، - مع تقديرنا لعمل المعارضة في الأخير، لا بد من الاستفادة من درس انهزام العدالة والتنمية، فالتصويت العقابي ضده، رسالة واضحة هي أن الشعب لا يوقع شيكا على بياض لأحد من أجل سواد عينيه، وأن المواطن اليوم، اضحى على وعي تام بأهمية التصويت والقوة الحاسمة التي تتمتع بها صناديق الاقتراع، فإما الفعل وإما العقاب، وأن التصويت لصالح حزب هو بمثابة أبرام لعقد ثقة مؤسس على التزامات، بموجبه ألتزم مواطن بالتصويت على حزب معين مقابل تنفيذ هذا الأخير لما وعد به. نحن نتطلع بأمل إلى عمل الحكومة القادمة، ونرجو لها النجاح، لأن أثر نجاحها أو فشلها سيعود إلى الوطن، ونحن لا نريد لوطننا، على أية حال، إلى الخير والخروج بسلام من هذه الأزمة التي طال بقاؤها بيننا. رشيد لبكر أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة شعيب الدكالي الجديدة