الديمقراطية كائن حي مثل البشر، بدورها تتهددها الفيروسات والمرض، لكنها تدافع عن نفسها بتجديد مناعتها، فعلت ذلك دائما وستفعله باستمرار. النموذج الأمريكي في عهد ترامب نموذج حي لدورة المرض والبحث عن التعافي بتجديد المناعة. والديمقراطية متعبة منهكة في حالتنا المغربية. وما تقوم به ليس انقلابا على نفسها، هي فقط تجدد مناعتها في مستوى سياسي محدد، وهذا المستوى ليس هو كل الداء، لكنه الجزء الأكثر بروزا في التشخيص. ولئن كانت الشعبوية أبرز أعراض الحالة المرضية، فإن ديمقراطيتنا ينخرها فيروس العزوف عن الانتخابات، الأمر لم يعد موقفا مبدئيا أو حديث صالونات مستهلك، أو حتى لعبة مسلية لتبرير توافقات الكواليس... ديمقراطيتنا الناشئة تفقد تدريجيا قاعدتها الاجتماعية، إنها تسير نحو أن تكون بدون حاضنة شعبية، هذا الأمر مثير للريبة، كل المؤسسات التي تنبثق عن الانتخابات ناقصة مشروعية.. وبالنتيجة، تبدو هذه المؤسسات منخرطة في لعبة سياسية مختلة، إذ بينما هي تفقد قواعدها، تتوسع وتتقوى الشرعيات المنافسة، لم يعد السياسيون يملكون غير بضعة أصوات في منافسة حول الشرعيات لا ترحم الضعفاء. تم تجريب كل الوصفات لإغواء الناخبين باستعادة ثقافة المشاركة الديمقراطية دون جدوى. العزوف معطى مشترك دوليا، لكنه أكثر حدة في حالتنا. في مرحلة ما تم التفكير في إجبارية التصويت، لكنه أسلوب قهري غير مقنع ديمقراطيا، وفضلا عن ذلك يصعب عمليا تنفيذه على الأرض. ولذلك يبدو المعامل الانتخابي على أساس المسجلين في اللوائح الانتخابية أسلوبا مبتكرا، أننا ننتقل من فكرة إجبارية التصويت، إلى فكرة إجبار الأحزاب على إقناع الناخبين بالتصويت. في إحدى تدويناته يفتخر عبد العالي حامي الدين عضو الأمانة العامة البيجيدي بأن حزبه سحق جميع الأحزاب، ويضيف أن ليس هناك الآن أي حزب قادر على هزيمته، وعلى نحو مفاجئ يجد مثل هذا التفكير صدى واسعا وسط نخبة يسارية وليبرالية انهزامية. وعلى نفس المنوال، يستطيع شخص مثل عبد الإله بن كيران، انطلاقا من روابط الشيخ والمريد التي تربطه بالفريق البرلماني لحزبه، أن يربك أشغال المؤسسة التشريعية بلايف أو رسالة يخطها فوق ورقة بالية، وهو ممدد في صالون بيته. إنه التغول بكل بساطة، وديكتاتورية "التفويض الشعبي". وباختصار مليون ونصف مليون صوت تريد أن تتحكم في رقاب مؤسسات الدولة وخيارات المجتمع. مارس البيجيدي سياسة الأرض المحروقة في الحقل الحزبي، وشنق رمزيا شخصيات سياسية وقام بتجريم أخرى... كل ما يرمز إلى التعددية شن عليه حربا شاملة. الأغلبية العددية ليست جوهر الديمقراطية، إنها آلية فقط للاختيار بين مكونات التعددية، وحين تهتز هذه الأخيرة وتختل، يفقد الانتخاب معناه، وتصير قاعدة الأغلبية العددية تكريسا لاستبداد مقنع.. والقاسم الانتخابي الجديد هو انتفاضة من جانب الديمقراطية لحماية تعدديتها التي تشكل جوهرها وماهيتها، كما لو أنها تلقح أو تطعم نفسها ضد فيروس التغول. هذا هو عمق الأشياء، وليس دموع التماسيح على حسابات عددية للمقاعد والوزارات. وكل ما حصل هو انتصار من الديمقراطية لشروط حماية الديمقراطية وبأدوات الديمقراطية..