ثمة منطلق مشترك بين جميع الفرقاء ان الانتخابات هي اداة لتحقيق الديموقراطية التمثيلية و اجرء تها , حيت الرهان الاساس هو بناء نظام ديموقراطي عبر انتخابات تمثيلية نزيهة و شفافة , تمكن المواطنين من اختيار من يمتلهم و يعبر غن رغباتهم و مطالبهم بفعالية . كل الفرقاء السياسيين يتفقون على البعد التمثيلي للديموقراطية , لكن الاختلاف يصبح حادا حين يتعلق بشروط و كيفيات التنزيل , فالأزمة لا تنبع حول قيمة الديموقراطية كنظام تمثيلي , لكن حول طرق الاجراة و التنفيذ .
لعل النقاش الحاد حول القاسم الانتخابي يكشف طبيعة و اسباب الصراع , لان كل فريق يريد بناء النظام الديموقراطي على مقاسه و تبعا لمصالحه و رهاناته, و هو ما يقود الى تبني فرضية الصراع حول الديموقراطية و ليس صراعا من اجلها .
فجوهر الصراع هو البحث عما ينفع , أي الترافع و الدفاع عن النموذج الديموقراطي و الياته التنفيذية التي تحقق مصلحة كل حزب / التصور البرغماتي ,فتعدد المصالح و تناقضاتها يقود الى المزيد من التوثر و الصراع .
حزب العدالة و التنمية متمسك بالقاسم الانتخابي بناء على عدد الاصوات الصحيحة ,لانه يدرك جيدا ان هذا المعيار يضمن المرتبة الاولى, وبالتالي رئاسة الحكومة و للمرة الثالثة على التوالي , وهو سيناريو في غاية الخطورة ليس فقط على العملية الانتخابية و على الوضع العام بالبلاد نتيجة عدم مراعاة السياقات الدولية و الجهوية و الاقليمية, و انما خطورة الولاية الثالثة تفقد الحزب ذاته قدرته الترافعية بالابتعاد عن المجتمع من خلال التعايش مع اجواء السلطة المريحة.
لذا يتمسك الطرف المعارض بالقسم الانتخابي بناء على عدد المسجلين , و هو ما يعني استحالة حصول لائحة معينة على اكثر من مقعد في كل دائرة انتخابية أي فقدان العدالة و التنمية لا كثر من 25 مقعد , اما حزب الاصالة و المعاصرة فالكل يعرف مصدر اصواته لاسيما في الدائر التي يحصل فيها على اكثر من مقعد – اقليمقلعة السراغنة نموذجا - .
ان جوهر الصراع هو كيفية البحث عن صيغ تنزيل النظام الديموقراطي كنظام تمثيلي يتيح للمواطنين اختيار من يمتلهم , و هو ما يستدعي استحضار الاسس النظرية و الفكرية لمفهوم الديموقراطية و الياتها .
لادراك العلاقة بين الديموقراطية و صيغ تنزيلها , يفترض بنا الانتباه الى انها ليست مفهوما مقدسا له دلالة واحدة و نهائية و متعالية عن سياقات انتاجها , و انما هي مفهوم يتحدد و يتعين تبعا لشروط انتاجه . ديفيد هيل في مؤلفه المهم و المتميز نماذج الديموقراطية يعتبر ان تاريخ فكرة الديموقراطية غريب , و تاريخ الديموقراطيات محير و انه لا يوجد نمط ديموقراطي واحد قابل للتعميم و التنفيذ مهما تشابهت التجارب , وان من الخيارات المفيدة لمقاربة المفهوم يكون باستدعاء اللحظات التأسيسية من خلال العودة الى الاصول و البدايات المفترضة من اجل تلمس خصوصية الفعل و طبيعته .
و هو ما يستدعي العودة الى تجربة اليونانية من خلال حلقات الاكورا حيت اصبحت الساحات العمومية مفتوحة امام المواطن العادي لمناقشة القضايا العامة و المشتركة / انفتاح الفضاء العام على الجميع , و بالتالي تجاوز تجربة التسيير البلاطي المغلقة حين كان الفعل السياسي و التدبيري لشؤون المدينة / الدولة يحاط بأعلى اشكال السرية والكتمان و حتى الحصر . حيت كانت السياسة تمارس داخل الاسوار ببلاط الحكام و الملوك باعتبارهم ممثلي الالهة بالمدينة . ما يميز النظام الديموقراطي في التجربة اليونانية انه سمح بميلاد المواطن الفاعل و انحسار نفوذ سلطة الاسطورة و الدين و الحديث باسم الالهة , انها نظام سمح للانسان البسيط كي يتكلم و يناقش و يجادل داخل حلقات الاكورا , ومن ثم اصبح له الحق ان ينتخب او ينتخب ان الديموقراطية في التجربة اليونانية كلحظة ولادة شكلت طريقا للسلطة , ومنحت فرصة للشعب كي يختار من يحكمه و يحاسب من يحكمه انها نظام وضع للشعب و من اجل الشعب . التجربة اليونانية في تصورها للنظام الديموقراطي كانت ملتزمة بمبدأ الفضيلة المدنية, و بالولاء لقيم المدينة و احترامها و حتى التضحية في سبيلها , هنا يمكن التوقف على رمزية اعدام سقراط رغم قيمة وصوابية افكاره الداعية الى عدم الزج بالشباب الى الموت المجاني عبر حروب لا يستفيد منها الا تجار الحروب فكانت تهمته افساد عقول الشباب و تحقير الالهة . رغم نجاح تلاميذ سقراط في اغراء حارس السجن من اجل تسهيل عملية الهروب , رفض سقراط الفرار بدعوى احترام لسلطة المدينة حتى لو كانت ظالمة , لقد شكل نموذجا و مثالا للإنسان الديموقراطي المزعج و الذي ينتقد و يسال و يساءل كل القرارات التي تخص الفضاء العمومي و الشان العمومي , سقراط ليس مجرد خليقة هادئة وجدت من اجل التسليم و انها هو مؤشر على ميلاد مواطن جديد داخل المدينة و الدولة اليونانية قادر على ان يكون حاضرا حتى لو كان حضوره المزعج سببا في غيابه , وهو ما كان يدركه سقراط جيدا انه سيعدم نتيجة شجاعته لتكسير الصمت , و اعلان مرحلة جديدة يكون فيها المواطن فاعلا يملك موقفا و رايا حول ما يجري بالفضاء العام و حول ما يرتبط بالمشترك العام .
التجربة السياسية اليونانية في لحظاتها التأسيسية جعلت الفعل السياسي فعلا مدنيا , ذلك انه لا يمكن اكتساب صفة الذات الانسانية الا عبر ممارسة الفعل السياسي كفعل مواطن و فق رؤية ارسطو ان الانسان حيوان سياسي , ولذلك فطبيعة الانسان لا يمكن ان تكتمل الا من خلال انتمائه للمجتمع، ولذلك فالطبيعة هي غاية كل الأشياء والكائنات. وقد اعتبر ارسطو ان الانسان هو حيوان سياسي ومدني بطبعه لا يستطيع ان يعيش خارج المجتمع، فالانسان بدون انتماء سياسي اما انه كائن لم يصل بعد الى مرتبة الانسان. التجربة التأسيسية للنظام الديموقراطي رسخت ان مبدا اساسيا ان الديموقراطية عبارة عن سلوك مدني لا يمكن ان يتحقق خارج تجربة العيش المشترك و خارج الفضيلة المدنية كتجربة مدنية .
بعد استدعاء الشرط التاريخي و محاولة تلمس العناوين الكبرى في التجربة التاسيسية لنظام الديموقراطية , يتضح ان الديموقراطية في قيمتها الكبرى و المركزية تجعل المواطن فعالا و مسؤولا و مشاركا في الفعل السياسي , و ان كل من لا يشارك في التجربة السياسية لا يعتبر مواطنا , و انما حيوانا و لم يصل بعد الى درجة الانسان كما عبر عن ذلك بركليس راعي الديموقراطية في التجربة اليونانية .
و فق هذا الاطار النظري المحدد للديموقراطية و باستدعاء طبيعة الخلاف لقائم حول القاسم الانتخابي يمكن اثارة الملاحظات الاتية :
اولا : ان حزب العدالة و التنمية في تمسكه بالقاسم الانتخابي بناء على عدد الاصوات المعبر عنها , فهو يؤسس رؤيته على منطق اقصائي و انعزالي , مادام يعتقد ان عدد المصوتين له لا يتراجع بناء على التصويت العقدي المغلق , خطورة هذا الاختيار هو بناء نظام ديموقراطي مغلق , من شانه ترسيخ اعتداء على التعددية التي تميز المجتمع المغربي في ابعاده الفسيفسائية .
الحزب يعرف ان سياقات انتخابات 2021 ستكون اكثر عزوفا , و ان مناخ اللا- تقة في المجال الانتخابي سيكون عنصرا مفيدا في الحفاظ على الصدارة , لان الحفاظ على 2 ملوني مصوت و الحصول على الرتبة الاولى مشروط بعدم المشاركة و انه كلما كانت نسبة المشاركة اقل من 45 في المئة فانه الحزب سيفوز بالصدارة بلا شك .
فالحزب لا يهتم بالبحث عن الصيغ المثلى لتفعيل الديموقراطية التمثيلية من اجل الحصول على تمثيليات حقيقية للناخب و طموحاته لكنه منشغل بتامين الفوز و تحصين الصدارة , و هو ما يعني تثبيت الاسباب التي تؤدي الى نفس النتيجة للانتخابات السابقة أي الاستثمار في العزوف و ضعف المشاركة, و في ذات الوقت وفاء الكتلة الناخبة التابعة للحزب.
الحزب يدرك جيدا ان اعتماد القاسم الانتخابي بناء على عدد المسجلين معناه توسيع دائرة المشاركة السياسية وهو ما يعني انتفاء الشرط الضامن للفوز , وهنا تكمن مقاومة الحزب ليس دفاعا عن الديمقراطية و لكن دفاعا عن الصدارة و بالتالي تامين الطريق الموصل الى رئاسة الحكومة .
فتمسك العدالة و التنمية بالقاسم الانتخابي بناء على عدد الاصوات المعبر عنها و الصحيحة يكشف الخلفية البرغماتية للحزب و تمسكه بكل المسارات الموصلة الى السلطة و الحفاظ عليها , كما يعكس الخلفية النظرية المؤسسة على النظرة الاقصائية و الانغلاقية من خلال تشجيع تقافة العزوف باعتباره شرطا للفوز و تصدر النتائج , ربما الحزب يؤسس تصوراته و قناعاته حول القاسم الانتخابي باعتبار الانتخابات سباقا و ليس رهانا من اجل التمثيل الجيد و الفعال و المنصت لانتظارات المواطنين الناخبين .
تشجيع العزوف او الاستتمار فيه يكشف ان الحزب يستعيد اللحظات السابقة لبناء و انبثاق النظام الديموقراطي بالتجربة اليونماية كما ثمت الاشارة اليه اعلاه , لانه يرسخ لمنطق الانغلاق و انتقائية التصويت على فئة معينة و تجاهل الاغلبية التي ترفض المشاركة اقتناعا او تهاونا .
الدفاع عن الديموقراطية كقيمة يستدعي الدفاع عن توسيع المشاركة السياسية و ليس الترافع من اجل حصرها و الاستثمار في اجواء العزوف من اجل تامين الفوز عدديا و ليس سياسيا.
ثانيا : ان الاحزاب التي تطالب باحتساب القاسم الانتخابي بناء على عدد المصوتين , ادركوا استحالة منع تصدر العدالة و التنمية من تصدر نتائج الانتخابات لاسيما في ظل استمرار نفس الظروف و السياقات المتحكمة في انتخابات 2016 و ان مسلس العزوف سيكون كبيرا , اظافة الى حجم الترهل الحزبي و غياب منتوج حزبي قادر على ايقاف زحف العدالة و التنمية و هو الحزب الذي يتمدد رغم حجم الاحباط الاجتماعي .
الاقتناع ان مواجهة الحزب غير ممكنة سياسيا لذا ثم التفكير في مواجهتها تقنيا عبر تغيير قواعد اللعب الانتخابي من خلال حرمان الحزب من مسببات الفوز عبر التحكم في البنيات التحتية للفوز من خلال الرفع من نسبة المشاركة و تجاوز اشكالية العزوف .
فالدفاع عن القاسم الانتخابي بناء على عدد المسجلين هو اختيار تكتيكي ذكي لحسم المواجهة ضد العدالة و التنمية حتى قبل المعركة , لان الحزب لا ستطيع تجاوز عتبة 100 مقعد في احسن حالاته .
و رغم ان اختيار القاسم الانتخابي بناء على عدد المصوتين مؤسس على مبادئ و اسس المواطنة الكاملة و ان مواطن لا يشارك في الحياة العامة هو مواكن ناقص و ان المواطنة الايجابية تفترض عليه المشاركة , لذا فحتى عدم المشاركة هي مشاركة و ان عدم التصويت هو تصويت , ان المواطن عليه ان يدرك ان صوته سيتم احتسابه مادام يملك كل مقومات المواطنة.
مبدئيا احتساب جميع اصوات المسجلين ينسجم مع خيارات الفعل الديمواقراطي و مع اسس المواطنة الايجابية و التي تفترض الحضور النشط و الايجابي للمواطن في كل فضاءات العامة كما انه سيكون بمثابة هدية تقدمها الدولة لليسار من اجل الاجتهاد قصد التواجد في مواقع المسؤولية .
غير ان تطبيق هذا الاجراء يشترط مجموعة من الشروط حيتي يكون مقبولا و مبررا من خلال دعوة الاشخاص الراغبين غي عدم احتساب اصواتهم بتقديم طلب بحذف اسمائهم من اللوائح الانتخابية , اظافة الى تعميم الاخبار به , حتى يعرف و يدرك الجميع ان كل مسجل سيحتسب صوته سواء صوت او لم يصوت .
عموما فالصراع الدائر حول القاسم الانتخابي هو صراع بين من من يستثمر في العزوف و بين من يريد انهاء مواجهة العدالة و التنمية عبر القانون و ليس في الواقع .