لم يترك الوباء من أحبتنا أحدا.. وما تبقى منهم منشغلون على الفيسبوك بتقديم التعازي ونشر صور الراحلين. وفي كل صباح أستيقظ لأرى العالم الأزرق بنظارات سوداء تماما مثل تلك «الإموجي» التي أستعملها عندما أسخر من أصدقائي (وجه أصفر بنظارات سوداء). يهولني كل هؤلاء الموتى.. أصدقاء، وأقارب الأصدقاء، وأصدقاء الأصدقاء، وأشخاص لا أعرفهم فقدوا أحبتهم، وموتى لا أعرف أسماءهم التحقوا بالرفيق الأعلى.. هكذا يقولون.. لا أفرق بين أحد.. الكل سواسية في الموت وفي الحزن.. تسرع أناملي للترحم فأكتب: تغمده الله بواسع رحمته وألهمكم الصبر.. رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.. آجركم الله في فقدان العزيز.. له الرحمة ولكم الصبر. أغير أسلوبي عشرات المرات.. أحيانا أكتفي بوضع الوجه الدامع أسفل النعي، كتعليق على تدوينات الوفاة والعزاء.. تساءلت مرارا هل تكفي دمعة واحدة لكل هذا الحزن.. أين اختفت البكايات اللواتي يتقاضين أجرا لتهييج مشاعر الشجن... أحاول أن أتجاوز أخبار الموت أدفع بسبابتي شاشة الهاتف فتتلاحق الأخبار والصور والتدوينات تباعا، لكن سلسلة الموت لا تنتهي تشبه تماما السيارة التي تنقل الراحلين إلى مثواهم الأخير، أصبحت أصادفها يوميا على الفيسبوك تجوب صفحاته وتحمل من انقضى أجله. امتلأت قلوبنا بالوجع وتحولت إلى مقبرة تلفظ جثامين من نعزهم ويعزهم أصدقاؤنا.. ولا تكتمل الفواجع إلا بكل رحيل جديد ثم تقول هل من مزيد؟.. ويأتي الجواب مرة أخرى من قريب.. ويملأ نعيه الدنيا كما ملأ وجهه العزيز التلفزيون ذات حجر.. وتسقط ورقة أخرى من شجرة الخريف. هذا الخريف أقسم أن لا يغادر حتى يعري أشجارنا ويسرق آخر أوراقها.. ولا يكتفي بل صار يعري مشاعرنا ويفضح ضعفنا.. كل يوم يكشف بكاءنا خلف عينين يابستين.. ما أصعب بكاء الروح بلا دموع. يختفي الرفاق الواحد تلو الآخر.. كلما رحلوا بلا وداع نرثي آخرهم بحزن عميق وقصيدة طويلة نضيف إليها أبياتا جديدة من مرثية من رحل قبله.. نشعر أننا لم نوف الراحل حقه فنزيد في البكاء حتى تجف الدموع.. غير أن «اللعوب» تستمر في الاحتيال علينا.. تتلاعب بنا كل يوم.. تحرضنا على الاستمرار في ارتكاب ما نفعله منذ أن فتحنا أعيننا على هذا العالم.. تغرينا الحياة بالأشياء الجميلة ويخيفنا الموت من فقدانها.. ونكتشف طبيعتنا الغرة كل مرة.. وكأننا أمام ميلاد جديد.. ينبعث من رحيل السابقين. كأنه مد وجزر يتلاعب بنا كرا وفرا.. نذعن له ونلعب نفس اللعبة على الشاطئ ونغني للأمس القريب مع عبد الهادي بلخياط: أيها الشاطئ قد جئت بآمالي إليك.. أذكر الأمس الذي كان وأحبابي لديك.. وأرى النور الذي يحيي المنى في جانبيك.. ما عليك اليوم لو أرجعت أمسي..