اعتبر بعضنا أن الأستاذ أحمد عصيد أخطأ التوقيت والأسلوب في تدوينته المثيرة للجدل حول الإعدام، كان اعتراضا تقنيا خالصا، أما مضمون ما قاله فوجهة نظر تحترم، حتى وإن بدت قاسية كقساوة الجرأة التي يواجه بها عصيد طابوهاتنا التي يريد بعضنا أن يجعلها مقدسة. لكن بعضنا الآخر لم يكن يهمه ما كتبه عصيد، لا توقيتا ولا أسلوبا ولا مضمونا، وحتى لو لم يكتب عصيد لظلت نفس العدوانية والكراهية تجثم على صدور هؤلاء، فقد وجدوا في قضية الطفل عدنان رحمه الله، فرصتهم المواتية، والتي لا يجب تضييعها، لتصفية كل الحسابات، القديم منها والجديد، مع رجل تزن جملتان منه أو فكرة احدة فقط كل ما يكتبه «مفكرو» نواقض الوضوء والطريقة الأمثل للاغتسال من الجنابة على الطريقة الشرعية. ومن علامات سوء النية في النقاش ونزوعه الانتقامي ليس فقط الأسلوب الداعشي الذي تم به الرد على الرجل، ولا التهجم على عرضه وشرف أسرته، كل جاهل أو متثاقف صار «مفكرا»، وبات يبحث في أرشيف الرجل عما يسمح له بأن يسحب منه ويجرده من صفة المفكر. وعصيد، شاء هؤلاء أم كرهوا مفكر مجتهد في زمننا هذا. إن المفكر من وجهة نظري هو من يستخرج من عشرات المؤلفات أفكاره الخاصة لا أن يردد ما جاء فيها كالببغاء، والمفكر كعصيد يختلف عن الباحث الذي صار في زمننا هذا مثل «غوغل». عصيد يقرأ وينتقد ما يقرؤه أحيانا أو ينسفه ويعرض تناقضاته وثغراته، ولعصيد أفكاره الخاصة به الناتجة عن تأملاته في المشترك بيننا، والمفكر الملتزم على طريقة السي أحماد، يتميز بأنه لا يؤمن بالمقدس بل بالعقل، ولذلك تراه يحطم أصنام المتطرفين واحدا واحدا، وفي هذه بالذات وعلى وجه التحديد، أرغدت أفواههم وأزبدت دما. إن أردت أن تحرف نقاشا أو تقوم بتمييعه أو حتى إقباره، فما عليك إلا أن تلتقي فيه موضوعيا مع «حمقى الله»، بدأ النقاش مدنيا حول عقوبة مدنية اسمها الإعدام، الذين دعوا إلى تطبيقه انطلقوا من أن الإعدام عدالة وليس انتقاما، والتطور المستمر للجريمة في سلم البشاعة يستدعي ذلك، والقائلون بإلغائه ذهبوا إلى أنه عقوبة غير رادعة وغير إنسانية وفيها انتقام. لكن (وفي لكن هذه تسكن الشياطين) ما إن دخلت طيور الظلام على الخط، حتى صرنا في نقاش إيديولوجي حول القصاص وتطبيق الحدود... وهنا كان لابد لكل مدني عاقل أن ينسحب من نقاش صار مطية لكل الخفافيش وقد أخرجها عصيد من جحورها. وهنا تظهر خلفية أخرى للذين تهجموا بهمجية عليه، مازال هؤلاء يحلمون بدولة الخلافة، وبالعودة إلى قطع اليد وقطع الرؤس... إنهم يحنون لزمن يعلو فيه فقهاء التطرف فوق قضاة المحاكم، وتغلب فيه أهواء الفتاوى على نصوص القانون، ويحل فيه السيف مكان السجن... إنهم ببساطة يلتقون مع الداعشية في نفس وجهة الرحلة، الداعشي يريد السفر بنا إلى أزمنة الظلام بقوة السلاح، وهؤلاء الذين يسيرون على منوال عقيدتهم يريدون لنا نفس الرحلة، لكل بكل أدب وسلم وإنسانية!! لكن عصيد هو واحد من الذين يفضحون نواياهم الإجرامية هذه، وهو جدار صد عنيد وصادق في وجه فدلكاتهم التنظيرية، وهو أيضا من القلائل الذين امتلكوا جرأة أن يقولوا للظلام أنه ظلام، وللرجعية أنها رجعية، وعصيد باختصار هو النقيض الرئيسي والفاعل لكل ما يصبون إليه ويحلمون به، ولذلك كان لابد لهم من قتله رمزيا، وهذا القتل لن يجد أفضل من مأساة الطفل عدنان مذبحا لسلخ عصيد وإنهاء إزعاجه لهم. لكننا نخرج من الحكاية كلها ورغم مأساويتها بالأهم في بناء ديمقراطيتنا وتحصين مكتسبات اختلافاتنا في الرأي والتعبير، فنحن لم نهزم الإرهاب بعد، نفكك خلاياه نعم، نعتقل عناصره الدموية ما من شك في ذلك، لكن الإرهاب المعشش في العقول والقلوب، والذي يقدم نفسه كوجهة نظر، مازال يعيش حرا بيننا ويقع بعيدا عن أن يكون تحت طائلة القانون ورجالاته. منذ زمن أبدع الفلاسفة في التأصيل للحرية أن الفكر الإجرامي لا يعاقب عليه إلا بعد أن ينتقل إلى ما هو عملي، وسارت القوانين على نفس الدرب وهي لا تعاقب على التطرف بل على تحويله إلى فعل إرهابي، ولذلك فالمعركة ضد هذا النوع من الإرهاب، الذي يمارس تقيته في إطار حرية الرأي والتعبير، ليست معركة الأمن والقضاة والسجون، هي معركة المفكرين والمثقفين والكتاب، هي معركة يتواجه فيها العقل مع الجهل، وينبغي للعقل أن يفوز فيها ولو بالنقط في مجتمع محافظ يحمي متطرفي العقول من الضربة القاضية. ولأن عصيد واحد من هؤلاء المفكرين، فقد استشعر خصومه الخطر، فحاولوا قتله رمزيا دون أن يعلموا أنهم ينتحرون في محراب رجل خلق ليناقش ويحاجج لا لأن يخاف ويختبئ.