"طنطات" ترتفع هنا وهناك، وإيقاعات شعبية تتلاقى فيها أهازيج صناع للخزف يتحولون في لحظات إلى "عازفين" ومطربين، في محاولة لتجريب المنتوج، الذي يحترف صٌنعه كثيرون... بإحدى القبائل القريبة من مدينة الجديدة. هي مناسبة سنوية تنتعش فيها العائدات المالية لأبناء قبيلة بأكملها، لأن منتوجهم يغدو رائجا، وسلعتهم "مطلوبة"، من تجار يقصدون القبيلة بحثا عن "الطعريجة"... زرنا المنطقة خلال عطلة نهاية الأسبوع، فتزامنت الزيارة مع موعد الانعقاد الأسبوعي ل «سوق السبت»، حيث وقفنا على حجم الرواج التجاري الذي يُضْفِيه الفخار على هذه المنطقة... «سبت الذويب».. مشتل الطعريجة غير بعيد عن مدينة الجديدة، وفي دائرة نفوذها، على الطريق المؤدية إلى «زاوية سيدي اسماعيل»، بعد انعطافة على اليمين، تكون الطريق سالكة إلى جماعة «أولا حسين»، أو منطقة سبت أولاد بوعزيز، أو «سبت الذويب» كما يسميه البعض. حركة دؤوبة لشاحنات من أحجام مختلفة، تقصد "الدوار" الذي تفرقت مباني منازله على ضفتي الطريق المؤدية إلى السوق الأسبوع.. لاشيء يوحي بأن اختلافا في المعيشة يسود بين أسر هذه المنطقة، فوحدها الأفران "التقليدية" المنتصبة بالفضاءات القريبة من عدد من البيوت توحد أغلب الأسر في احتراف نشاط خزفي، يعرف ذروته هذه الأيام. ففي مثل هذه المناسبة من كل سنة، وبتزامن مع الاحتفال بعاشوراء، تغدو منطقة «أولاد بوعزيز» وجهة تستقطب المئات من التجار، الباحثين عن المنتوج الذي تشتهر به هذه المنطقة.. إنها "الطعريجة" المختلفة الأحجام والأشكال، التي تنكب أسر بأكملها على صناعتها وتوفيرها من أجل توفير ما تطلبه السوق من ألعاب تقليدية خلال "العواشر".. ألعاب تستهوي الفتيات، وتبقى كذلك محط اهتمام الأطفال والشباب وكذلك النساء، اللواتي يلتئمن في حلقات خلال ليالي عاشوراء للانخراط في غناء جماعي... فالاحتقال يحررهن من "قيود المنزل" و"سلطة الرجال".. عندما يرددن: "هذا عيشور ما علينا لحكام".. "طعاريج" لمختلف الأعمار.. بأريحية استقبلنا أحمد وأبناؤه في المستودع الذي يضع فيه الآلاف من منتوج الطعريجة الذي عكف عماله، طيلة أشهر قبل عاشوراء، على إعداده.. كانت ألوان "الطعاريج" التي انتهى تهييئها زاهية، "موردة" بألوان تجذب من يقبلون على اقتنائها.. في الوقت الذي كانت فيه آخر الطلبيات تنتظر "نضجها"، بعد اشتغال الأفرنة التقليدية التي تبقى أهم إشكال لهذا المنتوج الخزفي.. هي التي ظلت متوقفة عن العمل أسابيع على مرور العيد الكبير، الذي دفع العمال إلى مغادرة عملهم والالتحاق بأهاليهم في القرى البعيدة. يعترف أحمد، باعتباره واحدا من تجار الطعريجة بمنطقة سوق السبت أن «رواج ألعاب الفخار، خاصة الطعريجة، تشكل مدخولا أساسيا في معظم تجارته، حتى وإن كانت صناعته تتنوع بين الأواني الفخارية من طاجين، و"قصرية" العجين، و"برادات" الماء.. إلا أن "الطعريجة" بحجم رواجها الكبير تبقى أساس مداخيله صناعته وتجارته.. ولأن «أحمد» يعتبر تاجرا بالجملة، فإن مستودعاته القريبة من محل سكناه تعج بمنتوج الطعريجة التي يشتغل أبناؤه وعماله على توفيرها طيلة الموسم، في انتظار حلول احتفالات "بابا عيشور". وعن الأثمنة التي يعرض بها سلعته على تجار التقسيط، صرح «أحمد» أنها «تنطلق من 50 سنتيما للطعريجة الصغيرة التي يشبهها ب "حاملة المفاتيح"، إلى غاية 50 درهما ل "الدربوكة" التي يعتمد في تنويع تجليدها على جلد الخروف والماعز، وحتى جلد السمك يغدو طرفا في صناعة آليات الأهازيج الشعبية التي تروج في عاشوراء. وبين طعريجة "البورت كلي" والدربوكة توجد العشرات من أنواع وأصناف الطعاريج التي يبرع خزفيو «سبت الذويب» في انتاجها.. ووحدها الطعريجة "المزلجة" التي يتركون أمر صناعتها لعاصمة الفخار، مدينة آسفى، حيث لا ينافسونها عليها.. أفران الفخار.. قنابل مضرة بالبيئة هي مبان على شكل مكعبات يصل طولها أحيانا إلى المترين، وقد يتجاوز بعضها هذا العلو، يتم تشييدها في الغالب على مقربة من ورشات صناعة الفخار.. فهنا لا يمكن التمييز بين المنزل والورشة، عندما يصبح البيت ورشة للصناعة، وتغدو الورشة جزءا لا يتجزأ من مسكن أسر الفخارين.. أفران تقليدية بناؤها يتم بالأحجار الصخرية التي تعتبر مكونا أساسيا للطبيعة الجغرافية لأرض المنطقة.. تهيأ لاستقبال مختلف منتوجات الفخار التي تكون قد أخذت قسطا وافرا من التجفيف الطبيعي تحت أشعة الشمس الحارقة. ولكي يأخذ المنتوج صلابته، لابد من إخضاعه لحرارة النيران، التي تكون درجاتها مرتفعة. وفي غياب بديل منظم و«مشروع»، أو بلغة المدافعين عن البيئة «أفران صديقة للبيئة»، فإن حطب جميع أفران الفخار بمنطقة «سبت أولاد بوعزيز» لا يعدو كونه بقايا من المواد البلاستيكية الشديدة الاشتعال.. فبجانب كل فرن تتراكم أكوام البلاستيك والعجلات المطاطية المستعملة، التي تُسهم في تأجيج نيران أفرنة الفخار، وتضاعف من حجم سحب الدخان الكثيف الذي يغطي المنطقة، مخلفا سحابة تلوث تؤثر على صحة مستنشقيها. وحسب أحد الفاعلين الجمعويين ضمن النفوذ الترابي لقيادة أولاد حسين، فإن «تفهم موقف صانعي الفخار من جهة، والرغبة في الحفاظ على إنتاجهم الذي يعتبر موردا أساسيا للعشرات من الأسر»، خاصة ب «دوار الحشلافة»، «لا ينبغي أن يحجب عن الأنظار المشاكل البيئية الخطيرة التي تخلفها هذه الصناعة»، خاصة «المواد الخطيرة التي تستعمل في أفرنة إنضاج منتوجات الفخار». وقد صرح المصدر ذاته أن جمعية لهؤلاء المهنيين بتنسيق وتشارك مع السلطات الاقليمية والمحلية والجماعة الترابية، تشتغل على مشروع من أجل استبدال الأفران التقليدية الملوثة للبيئة، بأفران غازية لا تخلف نفس الكمية من التلوث الذي تسببه الأفران الحالية. وفي انتظار أفران الغاز، التي قد تأتي أو لا تأتي، تستمر الأفران التي تتخذ من المواد البلاستيكية حطبا لها في إنضاج أواني الفخار و"طعاريج" عاشوراء، التي تنتشر في أسواق عديد من المدن هذه الأيام..