أيتها الأخوات العزيزات،أيها الإخوة الأعزاء، بعد عقدين من النضال داخل حزب الاستقلال، أصبحتُ مقتنعا أن مسؤوليتي السياسية وواجبي الأخلاقي يحتمان عليَّ التوجه إليكم مباشرة بالخطاب كمناضلين ومن خلالكم إلى كل المتعاطفين مع حزب الاستقلال. إنها لواحدة من اللحظات الحاسمة في تاريخ أية أسرة حزبية حين يصبح قول الحقيقة بصراحة ووضوح واجبا يمليه اجتناب مخاطر الصمت الذي من شأنه رهن مصير هذا التنظيم والحكم عليه بالانقراض إلى الأبد. ولعل المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال والذي سينعقد يوم التاسع والعشرين من شتنبر المقبل واحدة من هذه اللحظات التاريخية. كل المغاربة يعون جيدا أن حزب الاستقلال تغيَّر جذريا، وأن هذا التغيير لم يكن بالضرورة نحو الأفضل. فحزب الاستقلال كما عرفناه على عهد المؤسسين الأوائل وعلى رأسهم المرحوم علال الفاسي وعلى عهد خليفتهم المرحوم محمد بوستة أصبح مجرد ذكرى بعيدة. كل الاستقلاليين يحملون في عقولهم وقلوبهم إحساسا حيا بذلك الفخر الذي يغذيه الانتماء إلى طينة من السياسيين النادرين الذين قادوا معركة الاستقلال من أجل بلدهم، وأكدوا ارتباطهم الوثيق بالمؤسسة الملكية في الوقت الذي تماطل فيه الآخرون.. وقاموا بإصلاح المقاربة المحافِظة للمرجعية الدينية وتبنوا خيارات سياسية شجاعة عندما كانت البلاد تغرق في دوامة سنوات الرصاص، أو عندما عرض على الاستقلاليين حمل مسؤولية قيادة حكومة تناوب مزعومة سنة 1994. كل هذه المواقف السياسية علامات يتعذر محوها وستبقى مسجلة إلى الأبد بسجل تاريخ المغرب. هذه الملحمة الاستقلالية المتميزة ستشهد نهايتها فجأةً خلال المؤتمر الثالث عشر للحزب سنة 1998، إذ أن تعيين السيد عباس الفاسي على رأس الحزب، سيفتح الطريق باتجاه خط سياسي جديد لا طعم له ولا لون ولا رائحة، افتقدت الإدارة السياسية فيه إلى العمود الفقري.. فعندما قاد الحزب الحكومة لم تكن له نية إنتاج أفكار سياسية جديدة أو قيادة مشاريع إصلاح، بل اكتفى فقط بتنفيذ التوجيهات الملكية بشكل حرفي يبعث على الحيرة. وكنتيجة مباشرة لهذه الثقافة السياسية، تم الدفع ببعض التكنوقراط لشغل مناصب سياسية سامية دون التأكد من كفاءاتهم ودون أي تقييم لوزنهم على مستوى الأيديولوجيا السياسية. أحداث "الربيع العربي" والفوز الانتخابي الذي حققه التيار الإسلامي في إطار دستوري جديد كانت بمثابة "دق للجرس" لتخلي هذه القيادة المكانَ بعدَ معركة انتخابية حامية الوطيس بين مرشَّحَيْن للأمانة العامة للحزب نتج عنها فوز زعيم يحظى بكاريزما أكيدة، لكنه محط منازعة سواء داخل الحزب أو خارجه.. لقد كان من شأن افتقاده للرزانة إضافة إلى نزوعه الشعبوي وعنفه اللفظي وزلاته البروتوكولية والدبلوماسية العديدة أن انزلق إلى إثارة لغط مجاني مع الدوائر العليا للبلد، وبالتالي، إلى التهميش السياسي والإعلامي وكذا إلى هزيمة سياسية مبرمجة في أفق المؤتمر القادم. وعلى الرغم من كون الأمينين العامين الأخيرين لحزب الاستقلال على طرفي النقيض كلية من حيث الأسلوب السياسي إلا أنهما يشتركان في خاصية واحدة تتجلى في تلك الحصيلة المتشابهة المرصعة ب"الإخفاقات المتعددة".. طبيعة هذه الإخفاقات هي خمسة: إعلامية، وانتخابية، وسياسية، ونضالية، وأخلاقية. بداية، وعلى المستوى التواصلي خسر الحزب المعركة مع الإعلام الذي ألصق به صورة سلبية للغاية دون أن ننكر أن المهمة كانت في غاية السهولة بالنسبة لوسائل الإعلام بسبب كمِّ المخالفات المسجلة من منحِ الامتيازات للأقارب إلى فضيحة النجاة مرورا باختلالات الإستراتيجية السياسية وخطبٍ خالية من اللباقة، وغياب النقاشات الفكرية، والصراعات الشخصية، وتفويتات مشبوهة للصفقات العمومية وتهريب رأس المال إلى الخارج، والشكوك التي تحوم حول الثروات التي تم تحصيلها بطرق غير مشروعة.. إلخ.. على المستوى الانتخابي تلقى مسيرو الحزب رسالة تفيد بانعدام الثقة من قِبل ناخبين - ينتمون إلى مختلف شرائح المجتمع المغربي- اعتادوا التصويت لصالح الحزب.. في المدن والقرى، فقراء وأغنياء، عمالا وأطرا، مثقفين وحرفيين، شبانا وكهولا. كما أن الحزب تعرض تدريجيا للطرد من تسيير معظم جهات المملكة ومدنها الكبرى في تساوق تام مع تراجع وزنه النسبي في غرفتي البرلمان لصالح كل من حزب العدالة والتنمية سنتي 2011 و2016، وحزب الأصالة والمعاصرة سنة 2016. الهزيمة كانت سياسية أيضا لأن عمل حكومة عباس الفاسي دخل طي النسيان في سجلات التاريخ أَضفْ إلى ذلك أن حزب الاستقلال - تحت القيادة الحالية - فشل في سياسة تحالفاته من خلال فقدانه لرئاسة غرفة المستشارين ورفضه بشكل أحادي الجانب من قبل حزب العدالة والتنمية أثناء مرحلة تشكيل الحكومة المنبثقة عن اقتراع 2016 وفق الظروف التي يعرفها الجميع. كان اندحار حزب الاستقلال على المستوى النضالي كذلك، لأن بعض القوانين الداخلية تعرضت للتغيير، إن لم نقُل للانتهاك، وفق "مرونة" تنسجم وأهواء مسيري الحزب.. على سبيل المثال، حصل السيد عباس الفاسي على ولاية ثالثة على رأس الحزب رغم أن القوانين الأصلية تمنع هذا.. ناهيك عن عدم التزام السيد حميد شباط بوعده بالاستقالة في حال وقوع هزيمة انتخابية وعدم مبادرته إلى عقد مؤتمر استثنائي لتجاوز أزمة الحزب أو حتى الالتزام بعقد المؤتمر العادي في الآجال القانونية. الهزيمة، أخيرا، كانت أخلاقية أيضا لأن شرف حزب الاستقلال تم انتهاكه بفظاعة بسبب فضيحة وطنية دفع ثمنها ثلاثون ألف شاب عاطل عن العمل، كانوا ضحية توظيفات وهمية قوامها النصب والاحتيال.. وأيضا بسبب الغش الانتخابي وتحقيقات شملت وزراء سابقين تم ذكر أسمائهم ضمن محاضر استماع مجلس الحسابات أو ممن تم استدعائهم من قبل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية. أيتها الأخوات العزيزات،أيها الإخوة الأعزاء، إن إنكار الواقع أو قلب الحقيقة كانت على الدوام ولا تزال طريقة مضمونة لإبقاء الوضع على ما هو عليه بأخطائه وزلاته. ذلك أن نفس المقدمات تقود دوما إلى نفس النتائج. ومقابل ذلك فالاعتراف بضعفنا بكل صراحة والجهر بالحقيقة بجرأة في واضحة النهار فيعني أننا بصدد إعداد الشروط الضرورية لنجاحات مستقبلية. الاستعدادات الجارية للمؤتمر السابع عشر تبدو عادية إلى حد ما مع وجود إشارات إلى احتمال فوز مرشح معيّن يتم تداول اسمه بشكل واسع في وسائل الإعلام.. الأمر يتعلق بالسيد نزار بركة.. هذا الرجل، وعلى الرغم من كونه شخصا لطيفا، نجح في الحفاظ على علاقات ودية مع كافة حساسيات حزب الاستقلال وعلى علاقات طيبة مع أطراف من خارج الحزب بما فيها تلك المقربة من مراكز السلطة، على الرغم من ذلك، فإن إستراتيجيته السياسية تظل غير مناسبة لأنها لا تستجيب للرهانات الحقيقية للمرحلة. وهذا ما أقوله له هنا بكل وُد، ولكن بكل الصراحة والإخلاص الذي طبع علاقتنا دوما. في الحقيقة، إذا كان الهدف من وراء المنافسة هو الحصول على السلطة بأي وجه كان داخل حزب يتهاوى بلا خط سياسي رائد وبلا فريق تنفيذي قوي وتحت تهديد دائم من قبل لجنة تنفيذية لا تنتج غير "جعجعة بلا طحين"، فإن النتيجة لا تعدو أن تكون غير تحصيل لحاصل. بيد أنه إذا ما كان الهدف هو أن تعيد لحزب الاستقلال وهجه وتمكنه من العودة إلى خدمة الصالح العام بفعالية وقيادة المرحلة القادمة بإصلاحات جريئة ما أحوَجَ البلدَ إليها، فإنه من المحتمل جدا أن يجد المناضلون أنفسهم أمام خيبات أمل كبرى. "من يفوز بلا مخاطرة، ينتصرُ بدون مجد". هكذا قال "بيير كورناي" في مسرحية "لوسيد".. هل نحن بحاجة للتذكير بأن المؤتمر الاستثنائي لحزب الاستقلال المنعقد مؤخرا بتاريخ 29 أبريل، كان هدفه الوحيد هو تعديل المادة 54 من القانون الداخلي للحزب لتمكين المرشح المعين من قبل وسائل الإعلام لتقديم ترشيحه إلى منصب الأمين العام على حساب الأمين العام المنتهية ولايته؟ يمكن اعتبار هذه المواجهة الثنائية المبرمجة خطأ سياسيا جسيما. ذلك أن المعايير العصرية للديمقراطية الداخلية تفرض أن يتم فتح باب الترشح بشكل متساو أمام كل الشخصيات الحزبية الوازنة سواء كانت تتوفر على عضوية اللجنة التنفيذية أم لا. بل أكثر من ذلك، كان من المفروض إقرار مبدأ الرعاية (parrainage) في حدود دنيا للراغبين في الترشح – من أجل تفادي الترشيحات المتهافتة المحتملة - وفتح مجال أوسع لتداول الأفكار والمشاريع للقطع بشكل نهائي مع "ديمقراطية الواجهة". لقد أعطيت الأولوية لشكل من أشكال "ديمقراطية النومنكلاتورا" بهدف الانتقال من قيادة شعبوية إلى قيادة عائلية موروثة. إنه شكل من أشكال العودة إلى الحمض النووي الأصلي للحزب. هكذا - ومع قانون أساسي وبنود تنظيمية تعود إلى مرحلة عتيقة - يبدو أن فكرة ظهور شخصيات من مثل"ماتيو رينزي" و"جاستن ترودو" و"إمانويل ماكرون" في المغرب، هي من صميم اليوتوبيا بدون مبالغة. إن تركيبة الهيأة الانتخابية المكلفة بانتخاب الأمين العام تزيد هذه الوضعية القديمة والمتجاوزة سوءا مادامت هذه المهمة تقع على عاتق الأعضاء الألف بالمجلس الوطني والذين هم أنفسهم تم انتخابهم في إطار المؤتمرات المحلية والتنظيمات الموازية للحزب، حيث يقوم الأقزام والقزمات من فراعنتنا من أصحاب الجيوب العامرة والرؤوس الفارغة باختيار المقربين منهم وخدامهم وتهميش المثقفين والأطر العليا بالجهات والمدن داخل ربوع المملكة. بعبارة أخرى، إنه نظام انتخابي شديد الضرر يضعف الحزب على المستوى الثقافي ويضعف القيادة، ويجعل إدارة الحزب أكثر هشاشة ويعرضها للضغط ويخضعها لشروط وتهديدات البارونات المحليين الذين يفتقدون لبعد النظر ويتوفرون على شهية نهمة. سيكون على حزب الاستقلال أن يقوم بشكل عاجل بإعادة صياغة نظامه الأساسي وقوانينه الداخلية لمعانقة الحداثة. إن الرهان الماثل اليوم هو الاستجابة لانتظارات المواطنين، وتقعيد أسس الديمقراطية الداخلية وترجيح كفة التعبير التعددي عن الأفكار السياسية الصادرة عن أطر الحزب. إن سلطة انتخابِ الأمين العام للحزب يجب أن تنتقل من المجلس الوطني إلى عشرات الآلاف من المناضلين ومئات الآلاف من المتعاطفين مع الحزب ويجب أن ترفع كل الحواجز القانونية والتنظيمية المتعلقة بالترشح بهدف التشجيع على تجديد النخب السياسية. علينا بالضرورة اعتماد انتخابات أولية تكون عبارة عن تصويت بالأغلبية في جولتين. أما فرز الأصوات فيجب أن يعتمد الوسائل الرقمية كما يجب تذليل السبل أمام المرشحين لإبلاغ برامجهم إلى منخرطي الحزب وتنظيم ندوات داخلية وعمومية، إضافة إلى استثمار إمكانية إعطاء إشعاع وطني ودولي رائد بكل وسائل التواصل السمعية البصرية، المكتوبة والرقمية فيما يخص مناظرة الجولة الثانية بين المرشحين الأخيرين المؤهلين للدور النهائي. إذا قبل المناضلون بهذا الخيار، فإني ألتزم من جانبي بتقديم مشروع لصالح الحزب ورؤية حول كل المواضيع والقضايا التي تهم المغاربة، سواء تعلق الأمر بعصرنة المؤسسات السياسية، وتأهيل مجالات التربية الوطنية والصحة العمومية والقضاء، أو بإصلاح الدولة والإدارات العمومية الوطنية والترابية مرورا بإصلاح القانون الجنائي وقوانين الإرث والإجهاض والعلاقات الرضائية بين البالغين وحرية الضمير والمعتقد، والسياسات الثقافية والاقتصادية والضريبية والنقدية وتلك الخاصة بالميزانية وكذا السياسة الرياضية والديبلوماسية.. إن على السيدين حميد شباط ونزار بركة وآخرين ذوي الإرادة والقدرة على القيام بذلك، عليهم جميعا الاستجابة لهذا التمرين الديمقراطي الضروري في إطار مناظرات حتى يكون الخيار المتاح أمام المناضلين والمتعاطفين واضحا جليا. هذه الثقافة السياسية الجديدة - التي توجد بذورها في مؤلفات مؤسسي حزبنا - سوف تمكِّن حزب الاستقلال من ولوج عهد الحداثة وسيكون بوسع الأمين العام المستقبلي الاحتفاء – عن جدارة - بالمشروعية والمصداقية المناسبتين لهذا المنصب. إن الأزمة متعددة الأوجه التي يعيشها حزب الاستقلال لن يتم تجاوزها عن طريق خطب الاعتداد بالماضي ولا بواسطة التصرفات ذات الطابع التنظيمي المناوراتي، بل بواسطة مبادرات ترتكز على الشجاعة السياسية والمسؤولية النضالية.. وسيكون علينا، نحن، مناضلو حزب الاستقلال إسماع أصواتنا. سيكون علينا أن نتمتع بالجرأة وروح المبادرة والمطالبة حتى لا يكون المؤتمر السابع عشر مناسبة لإخلاف موعد آخر مع التاريخ. إنه لا وجود لنهضة بلا إصلاح كما لا توجد ديمقراطية في غياب الحقيقة والتعددية. علينا رفض السيناريوهات المعدة سلفا. وهذا يتوقف علينا نحن المناضلون، المناضلون الحقيقيون لكي تتقارب، أخيرا، عناصرُ ذكائنا الجماعي وكفاءاتنا كي نصنع مصيرا مشتركا قوامه الثقة والمسؤولية. لنمتلك، إذن، الثقة في طاقتنا الجماعية ولنمتلك الجرأة ولنبادر جميعا لأجل عائلتنا السياسية ولأجل بلدنا.