وجوه التعذيب تلاحقني إلى المدرسة.. حين حاولوا تجنيدي مخبرا على زملائي بعد نهاية تلك الامتحانات الفصلية، كانت نتائج تلاميذي مرضية رغم كل العوائق، وكان من المعتاد أن يستفيد كل التلاميذ وكل المدرسين من عطلة مدتها عشرة أيام، غير أني وجدت نفسي مستثنى منها بدعوى أن لدي عملا مستعجلا سأقوم به على أن تعوض لي تلك الأيام بأيام أخرى في العطلة الصيفية القادمة. ورغم أن المسؤولين لم يوضحوا لي طبيعة العمل الذي سأقوم به، فقد كنت أعتقد أن الأمر يتعلق بتحضير دروس لمحو الأمية كنت أكلف بين الحين والآخر بإعدادها من أجل أن تكون جاهزة في العطلة الصيفية، حيث يستعملها الطلاب خلال وجودهم بالمخيمات في حملة لمحو الأمية. كان يطلق على هذه البرامج برامج التثقيف الشعبي. غير أنه بعد أن خلت المدرسة من الجميع، عرفت أن ما تم استثنائي من العطلة لأجله بعيد كل البعد عما اعتقدته، إذ يتعلق الأمر بقضية مر عليها أكثر من أربع سنوات في مدرسة 9 يونيو، حين كان مديرها المحجوب إبراهيم (ولد افريطيس)، فقد تركت فيها حقيبتي عند زميلي المرحوم باب الشيخ عندما أخبروني بأني ذاهب إلى مدرسة 12 أكتوبر التي يمنع إحضار الحقائب إليها. وعندما علمت بداية 1983 أنه تم اختطافه جئت لأخذ حقيبتي والبحث عمن يحتفظ لي بها فمنعت من أخذها قبل أن يأخذ المدير علما بذلك، والذي منعني من أخذها أحد المعلمين كان مسؤول المداومة في ذلك اليوم، ويدعى جمال البندير، ومعروف عنه أنه كان من الذين يجاهرون بالكراهية لموريتانيا والموريتانيين، وأنه ممن يعز عليهم التملق للمسؤولين خاصة في تلك الفترة التي ارتفعت فيها قيمة النفاق والتملق. حضر المدير وبدأ يفتش الحقيبة بشكل دقيق ومهين، وبعد أن أكمل أخذ معه ألبوم صوري ومجموعة من الرسائل كانت قد وصلتني من أفراد عائلتي وبعض أصدقائي حينما كنت في ليبيا، وقال إنهم سيحتفظون بها مؤقتا، ولأنها ليست ذات أهمية كبيرة بالنسبة لي نسيتها إلى أن جاء ذلك اليوم الذي حرمت فيه من العطلة وظهر أن سبب حرماني هو ظهور تلك الصور والرسائل ليحقق معي في محتواها لعل وعسى أن يتم إثبات إدانة جديدة لي رغم اعترافي بدم يوسف الذي تبرأ منه الذئب. بعد أن أصبحت المدرسة خالية وأصبحت الساكن الوحيد في غرف المعلمين تم استدعائي إلى الإدارة لأجد في انتظاري نفس الأوجه (المحجوب إبراهيم، الخليفة الكوري وأحمد سلامه) فعرفت أن في الأمر «إن»، حيث يبدو أني أصبحت متعهدا لهذا الثالوث المشؤوم كلما أرادوا أن يتهموا أحدا، وعند دخولي لاحظت وجود ألبوم الصور الخاص بي ورسائلي التي تمت مصادرتها موضوعة على الطاولة التي يجلسون حولها. بعد أن جلست بدأ المحجوب يخرج الصور، صورة تلو الأخرى ويسألني عن علاقتي بصاحبها إلى أن وصل إلى صورة تجمعني بقريبي (محمد يحظيه ولد البناني) الذي التقيت به في الجنوب الليبي وسافر معي إلى بنغازي. سألني عن علاقتي به، وحين أوضحت له تلك العلاقة تدخل أحمد سلامة مكذبا وقال إن لديهم معلومات دقيقة تفيد بأن ذلك الشخص يعمل ملحقا عسكريا بالسفارة الموريتانية في طرابلس وأن عدم رغبتي في أن يرافقني أحد زملائي حين سافرت إلى بنغازي هو خوفي من افتضاح علاقتي بالمخابرات الموريتانية. تأكدت حينها أن مصدر «تلك المعلومات الدقيقة» ليس سوى زميلي (ع.ش)، الذي كان يدرس معي في ليبيا وكان يتقفى أثري في رحلتي العائلية تلك. في نهاية التحقيق معي حول الصور والرسائل أخرج الخليفة الكوري تلك الورقة التي سبق وأن تعهدت فيها بالبقاء مخلصا «للثورة» وقال لي نحن الآن نريد منك أن تفي بالعهد الذي وقعت عليه في المرة الماضية وأن تنفذ ما نطلبه منك، وحين استفسرت عن المطلوب مني كان رده بأن أبدأ بصفة دورية أكتب لهم تقارير عن المعلمين الذين أعمل معهم.