عودة مرة أخرى إلى قصص الوفاء، أحبها كثيرا و أجدها تحرك في قلبي أشياء كثيرة، وأحس بالدفء وحلاوة الحنين ورقة الشعور، وأنا أشرككم معي فيها. وأنا أشارك الأحد الماضي بمجلس تأبين الأستاذ ياسين رحمه الله، كانت فرصة كريمة للقاء أحد أصدقاء الوالد القدامى، سي محمد البركاوي وفقه الله لكل خير، ونحن نستعرض بعض الذكريات القديمة، عرجنا على دراستي الابتدائية بمدرسة البكري بشارع بوردو، وكانت مناسبة لي لأستعرض في ذهني بعض أيامي الخوالي بهذه المدرسة. مدرسة البكري الابتدائية هي مدرسة عمومية، حيث كان الوالد يصر على ألا ألج مؤسسة خاصة، مع أنه كان يمكنه ذلك بحكم أنه من متوسطي الدخل، ووالدتي تشتغل بالخطوط الملكية المغربية، و كنت الابن الوحيد لهما، لكنه كان لا يتوقف عن ترديد عبارة طالما صكت مسامعي: أنت ابن الشعب، وحيثما كان أبناء الشعب تكون. مدرسة البكري لم يكن يميزها عن مثيلاتها من المدارس إلا أن بها معلمين كانا مضرب المثل في الإخلاص للمهنة والتفاني في العمل، أحدهما الداعية المعروف والواعظ البليغ مصطفى قبايلي حفظه الله تعالى ، وثانيهما الأستاذة المتميزة ثريا أطلسي موضوع خاطرتنا اليوم. لم أر في حياتي معلما ولا معلمة أكثر إخلاصا وتفانيا وحرصا على تربية الأجيال وتعليمها من هذه المرأة، كانت تحترق حماسا وحيوية داخل فصلها، لا تتغيب أبدا، ولا تجدها أبدا في حديث ثنائي مع إحدى زميلاتها في العمل عن آخر ما تفتقت به عبقرية الطباخين والطباخات، و لا عن آخر مجريات مسلسل (القبض على فاطمة)، أو (أمي الحبيبة)، و لا عن الجديد في حلقات مسلسل (دالاس) أو (جيمي القوية)، لا تجدها أبدا تطلب من تلاميذها إحضار قليل من الكرفس والحمص والطماطم أيام رمضان، ولا "المونادا" والحلوى عشية رأس السنة، ولا ممن يطلب من التلاميذ جمع مبلغ من المال لشراء قاموس للفصل، ويكرر ذلك كل عام والقاموس نفسه لا يتغير، كانت قدوة بمعنى الكلمة لكل مربي الأجيال ومعلمي الأطفال. على يدها تعلمت المبادئ الأولى للغة الفرنسية، و إليها الفضل بعد الله تعالى في فرنسيتي التي يقال عنها أنها جيدة، على يدها درست كتاب A grand pas ، وهي من لقنني Moussa Tire, sa femme tire mais le mouton ne veut pas sortir…. Et Moussa appelle son fils….. Moussa tire, sa femme tire, son fils tire, mais le mouton ne veut pas sortir… Et Moussa appelle sa fille...... هي من حفظني نشيد: l alouette l alouette je te plumerai je te plumerai la tête, a la tete….. وغيره من الأناشيد التي لا زلت أحفظها إلى اليوم. علاقتي بها لم تكن عادية أبدا، كنت في السنة الثالثة الابتدائية حديث العودة من الحج، حججت بيت الله الحرام وأنا ابن الثامنة من عمري، وهو أمر استثنائي بالنسبة لأقراني خاصة في تلك الأيام، كان زملائي في المدرسة لا ينادونني إلا ب (الحاج)، وهو اللقب الذي لا يتشرف به عادة إلا كبار السن، وتبذل دونه الأموال، وكانت معلمتي بحكم تدينها تعرف ذلك لي وتحفظه، بل لما عرفت أني أحفظ القرآن الكريم طلبت مني شريطا مسجلا بصوتي، فلبيت طلبها فرحا مسرورا وأمددتها بالشريط.. ولا زلت أذكر ملامح وجهها حين حضورها للفصل وقد سمعت الشريط، ألقت علينا كلمة والدموع تداعب جفنيها، حدثتنا عن تأثرها بالشريط تأثرا بالغا، وعن قضائها الليل تفكر في الجائزة التي يمكن أن تقابلني بها، ظللت ومعي كل التلاميذ يترقبون نوع الجائزة وقيمتها، فكرت في كل شيء إلا فيما فكرت فيه معلمتي. كانت الأستاذة ثريا من إخلاصها في عملها قاسية جدا عند العقوبة، ترى ذلك من صميم التربية ومن أنجع الوسائل في التعليم، كانت تتفنن في وسائل الضرب، ولذلك كان التلاميذ يتحاشونها، ويدعون الله ألا يكونوا من نصيبها، قد تكون مصيبة أو مخطئة، لكن ما أنا متأكد منه أنها كانت تفعل ذلك بحب وخوف وحرص، وليس عن حقد أو كراهية، كانت الجائزة التي أعلنتها مدوية أمام ذهول التلاميذ هي قسمها باليمين المغلظ ألا تمسني بضرب أو عقوبة طيلة فترة دراستي عندها، مهما قصرت أو أذنبت، كانت الجائزة كبيرة حسدت عليها من كل زملائي بالفصل، وصارت حديث المدرسة والتلاميذ، رغم أنني أقر أن مفعولها على دراستي كان سلبيا، وأنني أصبحت متكاسلا مقارنة بما سبق فمن أمن العقوبة فرط في الطاعة. ودعت معلمتي إلى السنة الرابعة وما يليها، ومع ذلك لم تودعني، كانت تتدخل في كل ما يخصني بالمدرسة، تختار لي المعلمين، تتابع نتائجي، تسأل عني عند المدرسين، كنت إذا لم أتمكن من نيل الرتبة الأولى واكتفيت بالثانية أو الثالثة تواريت عن أنظارها حتى لا توبخني، بل ودعت المدرسة كلها، من البكري إلى ابن بطوطة، ثم إلى المولى عبد السلام بن مشيش بفاس، ثم إلى المولى إدريس بنفس المدينة، وإلى المولى إدريس مرة اخرى بالدار البيضاء فالواحة أخيرا، تتابعني في كل هذه المراحل، تسأل عني كل من يعرفني، تتبع أخباري يوما بيوم، دون كلل أو ملل. أذكر وأنا بسنتي الأولى من الكلية، أن أرسلت لي عبر أحد تلاميذها من أقربائي رسالة ثقيلة وعظيمة، قالت له قل لفلان إن الأستاذة ثريا تسلم عليك كثيرا، وتعلمك أنها تتابعك يوما بيوم، وتخبرك أن أمنيتها العظمى أن تكون عالما من علماء هذه الأمة. هزني كلامها، وحرك في دواخلي أشياء كثيرة، فلما كان فصل الصيف، وعدت من المدينةالمنورة إلى البيضاء لقضاء العطلة، تمنيت لقاءها، لكنني لا أملك عنوانها ولا رقمها، ولا من يدلني عليها، فقررت ذات صباح أن أخرج من البيت في اتجاه مدرسة البكري، أتنسم ذكرياتي الجميلة بها، وأشتم الرائحة الزكية التي خلفتها معلمتي بها، مع أن الوقت صيف، والمدرسة خاوية على عروشها، لكن نفسي حدثتني أنها قريبة مني، وكانت المفاجأة، ما إن وضعت قدمي على باب المدرسة حتى وجدت معلمتي عندها، امرأة وقورة قد أخذ السن منها ما أخذ، وترك ما ترك، بقيت متسمرا للحظات لا أدري كيف أحدثها ولا بم أبدؤها، حدثتني عن متابعتها لي، عن دعائها الدائم لي، عن أمانيها بخصوصي، وأنا مطرق الرأس لا أستطيع رفعه حياء وتهيبا، كان ذلك اللقاء الأخير بيني وبينها. فقدت كل أخبارها بعد ذلك، لكنني لم أنسها أبدا، أذكرها كلما ذكرت الإخلاص، كلما ذكرت التفاني، كلما ذكرت الحرص، أذكرها كلما قدمني الناس في مجلس أو فسحوا لي عن مكان، أذكرها كلما تحدثت بكلمة فرنسية أو طالعت مقالا بلغة موليير، لن أنساك معلمتي، لك مني كل الوفاء، أرسل لك هذه الكلمات أينما كنت، وأرجو أن أكون قد حققت ولو جزءا من أمانيك الغالية.. كل عام وأنتم أوفياء لمن علمكم ولو حرفا. http://www.facebook.com/abouhafsss