لعبة التواطؤ في عصابة الرابوني.. عودتي للتدريس بعد فترة احتجاز وتعذيب أدهشتني قوة ذاكرته، إذ ما إن سلمت عليه حتى سألني ممازحا ما إن كنت أكملت حفظ بقية الحروف، وبعد أن أكمل السلام علي أدخلني في خيمته وقدم لي قدحا من حليب النوق الذي طال عهدي، فشربت منه حتى ارتويت وتمنيت لو كانت لي معدة ثانية كي أكمل ما به، ثم بدأ هو بإعداد الشاي، وكان حينها يحرص على الحديث معي كي لا أنام قبل أن أشربه، وذلك بعد أن قلت له إنني متعب وأريد أن أنام، فحالي يكفي عن سؤالي. وأذكر أنه حكى لي قصة عن شجاعة أخ له يدعى (بوبوط) كان يصارع الأسود، وبعد أن أكمل الشاي سألني إن كنت أحضرت معي ما ألبس ليقيني البرد، وكان الفصل يومها شتاء (فبراير 1985)، ولما أجبته بالنفي أعطاني بطانيتين، عرفت في الصباح أنهما كل ما لديه لمقاومة البرد فتأثرت كثيرا بتلك الدرجة من الإيثار، وذكرتني بنقيضها الذي شاهدته البارحة في زملائي الذين تقاسموا أغراضي وأنا غائب. بعد نحو أسبوع جاء مسؤول الأمن وعاد بي إلى المدرسة كي أستأنف العمل من جديد، ففي تلك الفترة كان التعليم قد بدأ يشهد تدهورا ملحوظا، جراء سياسة الحقد التي ذهب ضحيتها أغلب الإطارات التعليمية، والتي كان معظمها من الشباب القادم من موريتانيا، وقد تم تعويض بعضهم بشباب استقدموا من الجزائر، دون أن تكون لهم تجربة ولا مستوى يمكنهم من ممارسة مهنة التعليم. كان حظ التلاميذ الذين كنت أدرسهم قبل الاختفاء أن جيء لهم بشاب اسمه سعيد محمد من سكان تيندوف، كان بالأساس يقدم دروسا في محو الأمية للكبار الذين يعملون في المدرسة، وحين ذهبت لأستلم منه المهام من جديد، كان المنظر الذي لن أنساه لكثرة ما أفرحني وأبكاني في الوقت ذاته، فتلاميذ القسم الذين يتجاوز عددهم الأربعين حين رأوني أدخل عليهم، وقفوا وكأنهم شخص واحد وصاحوا بصوت واحد مرحبين بي، وكأنهم كانوا يتدربون على ذلك الترحيب مثل نشيد، بل إن بعضهم خرج لمصافحتي وهو يبكي. لم أستطع السيطرة على مشاعري واندمجت معهم في بكاء كان بالنسبة لي خليطا من الفرح والحزن، ومصدر حزني، أن هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين استقبلوني بهذه المشاعر الجياشة البريئة، هم نفسهم الأطفال الذين غيبت عنهم في قبر قذر وأنا على قيد الحياة، بدعوى أنني جئت مخاطرا بحياتي من أجل المشاركة في إبادتهم والقضاء على حلمهم، كما أنني أنا الذي كنت أبكي كالأطفال، حين أعلم أن أبا لأحد منهم سقط في المعارك الحربية، وأنا الذي كنت أسهر الليالي وأعصر مخي وأذيب عقلي، كي أقدم لهم أفضل ما يمكن أن يقدمه أي شخص لمن يحبهم. حين بدأت معهم مراجعة ما تلقوه من دروس بعدي وجدت أن كل شيء قد توقف من اليوم الذي سقت فيه إلى المكان الذي كان سيكون أكثر فرحا، لو أن من سيق إليه أحد الذين تسببوا في انهيار منظومة تعليمية، أعتقد أنها كانت ستكون نموذجا لتعليم ناجح في المنطقة كلها. ولم يتطلب الأمر مني كبير جهد، كي أعرف أن البديل الذي حل محلي كان دوره يقتصر على الحراسة فقط، وكانت امتحانات الفصل الثاني من السنة الدراسية (1985-1986) على الأبواب، الأمر الذي جعلني أنا نفسي أمام امتحان صعب فأصبح علي أن أبذل جهدا مستحيلا كي يستدرك التلاميذ ما ضاع لهم من دروس ليس لهم ذنب في ضياعه، وأنا مع ذلك ليس باستطاعتي تحميل المسؤولية لغيري، لأن كل الأنظار الآن منصبة نحوي، وقد أصبحت أمثل مشروعا جيدا للتقارير الكاذبة التي يحتاج أصحابها من المنافقين، إلى إثبات أنهم «مناضلون مخلصون»، وعيونهم ساهرة على حماية الثورة من المخربين أمثالي.