بعد تجنب قدر حمل السلاح.. رحلتي مع التعليم في مساء اليوم الأول تم استدعاؤنا إلى أحد أقسام المدرسة حيث أجرينا اختبارا لتحديد المستوى، وكان هذه المرة نموذجيا يشبه إلى حد ما تعودنا عليه في المدرسة، لكنه كان سهلا جدا، مما يوحي بأن من أعدوه لم يكونوا يتوقعون أن في المجموعة من لديه مستوى أرفع من ذلك. دهش مدير الدروس (محمد بوزيد)، الذي كان هو المشرف على الاختبار، من سرعة إجابات المجموعة على الأسئلة ودقتها، بالرغم من أن اللغة الرئيسة لدى بعض أفرادها كانت هي الفرنسية التي درسوا بها، في حين تم إعداد والاختبار باللغة العربية، وبعد ذلك الاختبار ونتائجه التي كانت مبهرة للقيمين على المدرسة، أخبرونا بأننا سنبدأ العمل بصفتنا مدرسين مع بداية السنة الدراسية الجديدة، التي لم يبق على بدايتها سوى أسابيع. كان التحدي كبيرا بما في الكلمة من معنى، إذ لم يسبق لأي منا أن تلقى أي تكوين له علاقة بالتدريس. وإلى حد الساعة لم أجد سوى أن الإرادة تصنع المستحيل، من أجل تفسير النجاح الذي حققه أناس في مجال يتطلب سنوات من التكوين والتدريب، حتى أن الجزائريين كانوا يستغربون من المستويات المرتفعة لأطفال المخيمات الذين تستقبلهم المدارس الجزائرية لمتابعة دراستهم فيها. وبالنسبة لي فقد كان التحدي أكبر، خاصة في السنة الأولى، إذ كنت أدرس قسمين بنظام تناوب يبدأ من الثامنة صباحا، وحتى السابعة مساء بمعدل خمس ساعات يوميا لكل قسم، لا تفصل بينهما سوى ساعة لتناول وجبة الغداء، ومن السابعة حتى الثامنة، أقدم حصة في محو الأمية لصالح مجموعة من النساء، يعملن مربيات في القسم الداخلي للمدرسة. بعد ذلك تأتي حصة مراجعة ليلية للتلاميذ داخل القسم من الثامنة حتى التاسعة، وبعدها مباشرة حصة تقوية في اللغة والرياضيات لبعض المعلمين الذين يدرسون المستويات الدنيا، ثم أبدأ بعد ذلك تحضير الدروس ليوم الغد، ومع هذا البرنامج المشحون، كنت أخرج في الصباح الباكر لممارسة الرياضة قبل بداية الدوام. يمكن القول إني كنت سعيدا بهذه الحياة ومقتنعا بما أقوم به، وكان كل من هم حولي من معلمين ومسؤولين وعمال يشعرونني، من خلال معاملتهم الطيبة، بأنني أقدم شيئا مفيدا. وأعتقد أن من أهم العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة التعليم تلك، وجعلها تمتد بشكل سريع لتشمل كافة المخيمات، هو أن المشرفين عليها كانوا على وعي بضرورة إعطاء العناية للمعلم، الذي هو ركيزتها الأساسية. كانت إرادتهم واضحة في تحقيق هذا القناعة بالفعل، من خلال توفير الاحتياجات والوسائل التي تساعد على أداء العمل، ففي تلك الفترة أتذكر أن مخزن المدرسة كان مفتوحا أمام أي معلم يريد اقتناء أي شيء من الموجودات، كالملابس وأدوات النظافة، ومن الأبواب التي كانت لا تغلق في المدرسة هي المكتبة، التي كانت تشتمل على أنواع الأدوات المدرسية، ولا أذكر خلال تلك السنة أن الإدارة استدعت أي مدرس لتوجيه اللوم له مهما كان الخطأ الذي ارتكبه. وعلى مستوى طاقم التدريس، فقد كان الانسجام هو السمة البارزة بين المعلمين، باستثناء بعض الصراعات الصامتة بين بعض الناطقين بالفرنسية والناطقين بالإسبانية، والتي ظلت في إطارها البيني، بالرغم من أن بعد هذا النوع من الظواهر الفكرية، يعطي صورة قد تكون سابقة لأوانها عن فجوة كبيرة في نسيج يرى بعض أطرافه أنه هو وحده صاحب الحق والطرف الآخر عابر سبيل غريب، جاء به تطفله ليحتل مكانا ليس من حقه. سيتبين كل ذلك فعليا لاحقا حين انخرط الكل، إلا من رحم ربك في حملة شعواء ضد كل القادمين من موريتانيا، بعد أن اكتشفت قيادة البوليساريو اكتشافها «التاريخي»، المتمثل في الشبكة الموريتانية التي تعمل لصالح فرنسا ونظام ولد هيدالة، الذي لم يكن سوى «مناضل» من الصف الثالث من مناضلي هذه القيادة. كانت تلك السنة الدراسية (1979-1980) ناجحة بكل المقاييس، بالرغم من كونها أول تجربة تحاكي المدارس الحديثة بمعايير ذلك التاريخ، وبالرغم من فقر البيئة التربوية التي كان يعمل فيها طاقم التدريس، من انعدام شبه كامل لوسائل الإيضاح وغياب دور الأسرة لكون تلك المدرسة كانت داخلية تقع في حيز جغرافي بعيد عن المخيم، لكن النتائج كانت مفاجئة بكل المقاييس.