محظوظ لاريب من تتاح له نعمة زيارة المغرب والتعرف إلى هذا البلد الجميل وأهله الطيبين، حيث يصبح وجهًا لوجه مع الحضارة والتراث والحقول والأمطار والبحار والمحيطات! لكن كيف وصلت إلى المغرب طائرًا من دبي؟ وماذا رأيت؟ وكيف استمتعت؟ وماذا فعلت؟ تعالوا أطلعكم على قبسات لمست نورها واستنشقت عطرها في المغرب الفاتن. بدعوة كريمة من وزير الثقافة المغربي هبطت أرض المغرب ظهر الثلاثاء 14 فبراير الماضي للمشاركة في فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدارالبيضاء/ الدورة 23، حيث تشرفت بلقاء رواد المعرض يوم الخميس 16 فبراير ضمن برنامج النشاط الثقافي في جلسة بعنوان (ساعة مع ناصر عراق) التي أدارتها باقتدار الناقدة المصرية المرموقة الدكتورة نانسي إبراهيم وحضرها جمهور المعرض الذي طرح العديد من الأسئلة الذكية حاولت قدر طاقتي الإجابة عليها. أسعدني كثيرًا التجوال في المعرض حيث كان الحضور لافتا من قبل الجمهور المغربي والضيوف العرب والأجانب، كما أن المدارس نظمت رحلات للتلاميذ الصغار للتفاعل مع هذا الحدث الثقافي البارز، ولتعزيز العلاقة بالكتاب مع النشء الجديد، وهو أمر نحن في أمس الحاجة إليه. وكم كان رائعًا أن أرى الشاعر المغربي المتميز الدكتور حسن الوزاني مدير الكتاب والخزانات والمحفوظات (أي رئيس هيئة الكتاب والمعرض بمصطلحاتنا المصرية) يطوف بين الأروقة يتابع الأنشطة ويحل المشكلات التي تعترض دور النشر بهمة يحسد عليها.
أشياء أخرى جميلة يحتل الشاعر والروائي والإعلامي المغربي ياسين عدنان مكانة مرموقة لا في الثقافة المغربية فحسب، وإنما في الوسط الثقافي المشارقي أيضا، نظرًا لحيويته وحضوره الدائم في الفعاليات المشرقية، وقد استثمر هذا الشاب الموهوب (روايته "هوت ماروك" وصلت إلى القائمة الطويلة في البوكر العربية لهذه الدورة)، أقول استثمر برنامجه الأسبوعي (مشارف) الذي يبث على القناة الأولى المغربية منذ أحد عشر عامًا في تعزيز التكامل الثقافي العربي إذا جاز القول، حيث استضاف عشرات المبدعين من الشرق والغرب وتناول معهم الهموم الثقافية التي تشغل بال المجتمع العربي من الماء إلى الماء، وقد كان لي حظ أن يسجل معي حلقة كاملة من هذا البرنامج. أعرف ياسين منذ ثمانية عشر عامًا إذ كان المسؤول عن مكتب دار الصدى للصحافة بالمغرب، والتي أصدرت مجلة "دبي الثقافية" فيما بعد، وكنت بوصفي رئيس القسم الثقافي في دار الصدى ثم مدير تحرير دبي الثقافية على تواصل شبه يومي معه من مقر الداربدبي، وهكذا توطدت علاقتنا من قرن إلى آخر، ولم يتأخر الرجل عن اصطحابي في جولات داخل الدارالبيضاء، ثم مراكش بعد ذلك. ولأنه عاشق مفتون بالمغرب، فقد تجول بنا في الشوارع والأزقة والمقاهي والمطاعم والحدائق شارحا وموضحًا وناصحًا، ولا أخفيك فإن النظافة الشديدة للشوارع والمباني والنظام المروري الدقيق واختفاء ظاهرة التكدس البشري… كل ذلك منح البلد مظهرًا حضاريًا جعلها أشبه بدول أوروبا. في مطعم شعبي بسيط في قلب ميناء الدارالبيضاء على بعد أمتار قليلة جدًا من المحيط الأطلسي تناولت أفضل سمك وجمبري تلذذت به في حياتي، وقد عرفت للمرة الأولى أن الكائنات البحرية التي تعيش في هذا المحيط تختلف بشكل عجيب عن تلك التي تسبح في البحار والخلجان من حيث طعمها اللذيذ، كذلك شاهدت المدينة القديمة بالدارالبيضاء، حيث يتجاور المسجد والكنيسة والمعبد اليهودي في إشارة واضحة إلى أن المغرب يحتضن الجميع بلا عنصرية أو تطرف منذ القدم. الحقول والأشجار والحدائق تلوّن الفضاء المغربي بشكل رائع، فأينما وليت وجهك ثمة اخضرار طبيعي خلاب، ولما ركبنا القطار من الدارالبيضاء متوجهين إلى مراكش (نحو 220 كم شرقا) أسرتني هذه الحقول اللانهائية، وقد علمت أن المغرب يكاد، في السنوات المطيرة كهذه السنة، يحقق اكتفاءً ذاتيًا من القمح، لأنه يعتمد ثقافة الخبز، فالمغاربة لا يعرفون الأرز مثل المشارقة، والخبز يتصدر المائدة في الوجبات الثلاث، أما (الكسكس… وجبتهم الشهيرة) فلا يتناولونه إلا في أيام الجُمع فقط. مراكش… وما أدراك ما مراكش؟ إنها المدينة الباذخة… أو المدينة الحمراء كما يطلق عليها أهلها، فجميع مبانيها طليت باللون الأحمر ودرجاته الظلية اتقاء لشمسها الحادة في شهور الصيف، لكنها في الشتاء تبدو غارقة في غشاء من السُحُب والغيوم الملبدة بالأمطار، والشمس إذا استطاعت أن تخترق هذا الغشاء تسطع علينا نورًا وسرورًا. في مراكش تجولنا معًا في ساحة جامع الفنا التي تحتشد بأناس يقدمون عروضا من التراث الشعبي المغربي (أفتح هذا القوس لأذكرك بمشاهد جمعت رشدي أباظة وسعاد حسني في هذه الساحة في فيلم الحب الضائع لبركات عام 1970). ومن مراكش أيضا اصطحبنا المثقف المغربي المرموق محمد علي الهلالي الرئيس السابق لمهرجان السينما بزاكورة جنوبي المغرب نحو أحواز مراكش في مسافة تبعد نحو 25 كم عن قلب المدينة لنطل على مشروعه السياحي الخاص المتمثل في تشييد فيلا للاستجمام وسط الحقول الممتدة (فيلا سيدي سافو) التي تعد ملاذا سياحيا من طراز بديع، وأشهد أن المكان كان ساحرًا يكشف عن عشق الرجل لفكرة التأمل والعمل على تهيئة الراغبين في اقتناص طائر التأمل على تحقيق حلمهم. على بعد 30 كم من مراكش تمتد جبال الأطلس الكبير، ورغم أن المطر سطا على طقس المدينة في ذلك اليوم، إلا أن ياسين عدنان اصطحبنا بسيارته نحو هذه الجبال الراسخة المكسوة بالخضرة، وبالفعل كنا ننوي الصعود إلى جبل (أوكايمدن) الذي يبقى مكسوًا بالثلوج لعدة أشهر من السنة ويبلغ ارتفاعه 3200 متر، لكننا تراجعنا عن ذلك في آخر لحظة بسبب شدة سقوط الأمطار، وبقينا في منطقة (أوريكة) الجبلية أيضا، حيث نطل على مشارف جبال الأطلس وسط أجواء شتوية بالغة الروعة لنبتهج بمناظر طبيعية ساحرة قوامها أشجار الأرز والزيتون والخوخ والرمان واللوز والبرتقال والجداول والشلالات الصغيرة، ولنعرف أن ساكني الجبال هم من الأمازيغ، الذين يمتلكون تراثا خاصًا ولغة مختلفة وانصهروا مع العرب حتى صار المغرب بوتقة يذوب في عشقها الأمازيغ والعرب ولا يمكن الفصل بينهما. وكما أخبرنا ياسين فإن الدستور المغربي أقر اللغة الأمازيغية بوصفها لغة وطنية رسمية للمملكة – إلى جانب العربية طبعًا – يتعلمها الطلاب في المدارس، كما أن لهم قناة تلفزيونية رسمية تعرض ما يخص الشأن الأمازيغي من أخبار وتاريخ وفنون وآداب. تحتضن هذه الجبال المطاعم والحانات والمقاهي وتقدم لزائريها الطعام والشراب، وقد تناولنا في أحد تلك المطاعم الوجبة المغربية الشهيرة (طاجين) المكون من اللحم والخضروات، حيث تم إنضاجها على الفحم، ولعلك تخمّن مدى الحلاوة التي تكمن في مذاقها؟ الحديث عن المغرب وأهله لن ينتهي، والمساحة محدودة، لذا دعني أتوقف هنا وأعترف بأن هذه الزيارة منحتني سعادة لا حدود لها، فبورك المغرب وأهله الطيبون.