قبل اثني عشر عاما، سنت مؤسسة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش تقليدا حميدا يتمثل في تخصيص تكريم لسينما العالم، وهو تكريم حظيت به في هذه الدورة السادسة عشرة (2-10 دجنبر) السينما الروسية والسوفياتية التي يجمع النقاد على كونها "استثنائية وذات لمسة خاصة". ويصادف احتفاء مهرجان مراكش بالسينما الروسية سنة السينما بجمهورية روسيا الاتحادية (2016)، ما يجعل من مشاهدة جمهور المهرجان لهذه الأفلام فرصة لاستيعابها "لأننا نتفاهم بشكل جيد من خلال لغة السينما بالرغم من اختلافاتنا"، حسب تعبير رئيس الوفد السينمائي الروسي كارين شاخنازاروف وهو مخرج وكاتب سيناريو ومنتج ويشغل منصب المدير العام لاستوديو موسفيلم. وقد ضم الوفد الروسي أزيد من عشرين مبدعا ومبدعة في مجالات التمثيل والإخراج والإنتاج وكتابة السيناريوهات وإدارة التصوير والمهرجانات من مشارب متعددة ومتباينة، فضلا عن ميخائيل شفيدكوي السفير المبعوث الخاص للرئيس، كما تمت برمجة عرض أزيد من ثلاثين فيلما يغطي مختلف المحطات التي شهدتها السينما الروسية. وتقدم الأفلام الروسية والسوفياتية، التي يتم عرضها طيلة أيام المهرجان، نظرة استعادية لتاريخ السينما في روسيا، التي بلغ عمرها مائة سنة ونيف، والمواضيع المتنوعة التي تناولتها والمشاكل التي أرقت المجتمع الروسي ثم السوفياتي قبل نجاح البريسترويكا (الشفافية) وتفكك الاتحاد السابق، فضلا عن الأقانيم الإنسانية الخالدة (الحب والصداقة والإيمان والكرامة والمقاومة …). ففي موسكو، تم إحداث أول مدرسة في العالم للسينما في العالم (المعهد العالي للسينما) سنة 1919، بعد صدور قرار تأميم القطاع، إذ أصبحت السينما الوسيلة الرئيسة للاتصال والتثقيف والبروباغاندا. وعن سينما الدولة ظهرت أفلام عديدة من بينها الفيلم الصامت "المدرعة بوتمكين" 1925 للمخرج سيرغي إيزنشتاين الذي افتتح سلسلة الأفلام الروسية بمراكش . وبعد عشرين سنة، يعود إيزنشتاين بفيلم ثان يمجد الثورة البولشفية بطريقة غير مباشرة هو "إيفان الرهيب"، الذي قدمت الدورة الحالية لمهرجان مراكش جزءه الثاني في إطار تكريم السينما الروسية، قبل أن يتوالى عرض أفلام سوفياتية وروسية أخرى بقاعتي "الوزراء" و"السفراء" بقصر المؤتمرات وكذا بسينما كوليزي بالمدينة الحمراء. وفي الثلاثينات من القرن المنصرم، برزت أفلام الكوميديا الموسيقية من قبيل "الربيع" 1947 لغريغوري ألكسندروف. وفي أعقاب الحقبة الستالينية، ارتفعت وتيرة الإنتاج بعد 1956 فظهر فيلم "أنشودة الجندي" 1960 لغرغوري تشوخراي الذي حاز جائزة أفضل مشاركة في مهرجان "كان" سنة 1960. إلا أن الفيلم الروسي الوحيد الذي حاز السعفة الذهبية لمهرجان "كان" لحد الآن، هو فيلم "حين تطير اللقالق" 1958، الذي سيتم عرضه مساء اليوم الجمعة في قاعة كوليزي بمراكش ، وهو من إخراج ميخائيل كالاتوزوف، وسيناريو فيكتور روزوف وتصوير سيرغي أوروسيفسكي وتشخيص تاتيانا سامولوفا وألكسي باتالوف، وتدور أحداثه سنة 1941 في موسكو وجبهات القتال السوفياتية ضد النازية وحليفتها الفاشية. وبالرغم من كل العوائق، تمكن سينمائيون روس من ترسيخ أسمائهم في سجل الكبار، من أمثال مارلين كوتسييف بفيلم "أنا في العشرين من عمري" 1962، وأندري تاركوفسكي بفيلم "أندري روبليف" 1966، وألكسندر أسكولدوف بفيلم "المفوضة" 1967، وأندري كونشالوفسكي بفيلم "سيبيرياد" 1979. وشكل مؤتمر اتحاد المخرجين السينمائيين الروس الذي انعقد في شهر ماي 1986 علامة فارقة، فبرز عدد من المخرجين الإصلاحيين من أمثال فاسيلي بيتشول في فيلم "فيرا الصغيرة" 1988 وكارين شاخنازاروف قي "المدينة الصفر" 1989، وكذا القول بالنسبة لكليب بانفيلوف في "موضوع" 1980 وإيليم كليموف في "تعال وانظر" 1985 . ويصور فيلم "طاكسي بلوز" 1990 لمخرجه بافيل لونكين، الذي قدم أول أمس الأربعاء درسا في السينما (ماستر كلاس)، وهو أيضا صاحب فيلم "" الجزيرة" 2006، وفيلم "لا تتحرك، مت، وانبعث" 1990 أيضا، للمخرج فيتالي كانيفسكي، الذي تم عرضه يوم الأحد المنصرم، وغيرهما مرحلة تفكك المجتمع بعد انهيار الاتحاد السوفياتي خلال سنتي 1990 و1991. وفي حين استطاع منتجون مستقلون أن يجدوا تمويلا لأفلام كبرى مثل "الأخ" 1997 من إخراج ألكسي بالابانوف، و"سجين الجبال" 1997 من إخراج سيرغي بودروف، فإنه لم يكن بمقدور مخرجي أفلام أخرى مثل "المنهكون من الشمس" 1994 لنيكيتا ميخالكوف، و"خروستاليوف، هيا بالسيارة" 1998، و"السفينة الروسية" 2003 لألكسندر سوكوروف، إنجازها إلا من خلال الإنتاجات المشتركة، خاصة مع فرنسا. وعزا جويل شاربون المتخصص في السينما الروسية ذلك إلى "الفوضى التي كان من نتائجها تقليص أعداد مرتادي القاعات، إذ لم تعد هناك في سنة 1996 سوى ست قاعات بمعايير تقنية دولية، وبمجموع لا يتعدى 6ر38 مليون من المتفرجين". ولم تعرف السينما الروسية، طبقا لشاربون دائما، انتعاشتها الحقيقية إلا سنة 2004 مع ظهور أول فيلم لقي إقبالا جماهيريا كبيرا هو "ساعة ليلية" لمخرجه تيمور بيكمامبيتوف، الذي حظي بدعم من القناة التلفزيونية الأولى. وبعد ظهور فيلم "العودة" 2003 حصل مخرجه أندري زفياكنتسيف على الأسد الذهبي بمهرجان البندقية في السنة ذاتها، ونال المخرج يوري بيكوف جائزة مهرجان لوكارنو سنة 2014 عن فيلمه "الأحمق" كما نال أندري زافياكينتسيف جائزة أفضل سيناريو بمهرجان "كان" سنة 2014 وغولدن كلوب أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية سنة 2015 عن فيلمه "الطاغوت" (2014). ويعرض في مراكش أيضا فيلم "عشاق الصرعات" 2008 لفاليري تودوروفسكي، فيما تم، أمس الخميس، عرض فيلم "علم الحيوان" لإيفان تفيردوفسكي الذي يعد الفيلم الروسي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، وأثار عاصفة من التصفيق والاستحسان في ختام عرضه، وعرض فيلم "المبارز" لألكسي ميزكيريف خارج المسابقة. هي إذن ثلاثون فيلما روسيا وسوفياتيا تمت برمجتها خلال هذه الدورة من المهرجان، ما مكن عشاق السينما من الاستمتاع بسينما باذخة الثراء والتميز، رأت المخرجة والممثلة الفرنسية فاني أردون، مخرجة فيلم (أريكة ستالين – 2016)، خلال حفل تكريم السينما الروسية أول أمس الأربعاء، أنها "تغني السينما الأوروبية بمزيد من القيم الإنسانية والروحية".