في مقال لستيفن سيمون وجوناتان ستيفنسون حول أسباب تخفيض التواجد العسكري الامريكي في الشرق الأوسط نشر بمجلة "فورين آفيرز" قبل أشهر، يذهب الباحثان إلى أن التدخل الأمريكي في المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001 تدخل غير طبيعي، وأن استقرار المنطقة لعقود قبل ذلك كان يتركز على نزعة عدم التدخل العسكري المباشر أو التدخل السريع والمحصور زمنيا كما حصل إبان حرب الخليج الاولى. لهذا فقرار أوباما خفض التواجد العسكري بالشرق الأوسط هو رجوع إلى أمر "طبيعي" كان مصدر استقرار في المنطقة لسنوات بل لعقود. ما يعزز هذا الطرح حسب الكاتبين هو أن التحولات السياسية والاقتصادية التي تعرفها المنطقة قد أضعفت أهمية أي تدخل محتمل إلى أقصى حد، خصوصا مع "عدم وجود تهديد مباشر للمصالح الأمريكية". حالة الاستقرار التي تكلم عنها الكاتبان هي نتيجة تقارب تاريخي لمصالح حلفاء استراتيجيين بالمنطقة ومصالح الولاياتالمتحدة في ظل تواجد عسكري أمريكي خفيف: دول الخليج والولاياتالمتحدة كان هدفها منذ الخمسينات الحفاظ على استقرار أثمان وتدفق البترول على الأسواق العالمية. بعد الثورة الإيرانية كان للولايات المتحدة ودول الخليج وإسرائيل هدف مشترك يتمثل في الحد من التوسع الإيراني. وبعد اتفاقيات كامب دايفيد، يقول ستيفن سيمون وجوناتان ستيفنسون، كان هدف الدعم الأمريكي لمصر وإسرائيل هو الحفاظ على "السلام" بين البلدين كمؤشر إيجابي لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي. بينما أدت أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001 إلى تقاطع الأولويات بين الدول العربية والولاياتالمتحدة وإسرائيل فيما يخص الحرب على الإرهاب. خلال العقد الأخير، طفت على السطح عوامل قوضت هذه التحالفات. أولها، انخفاض اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط العربي خصوصا مع تطور صناعة التفجير الصخري في باطن الأرض في الولاياتالمتحدة ونمو الانتاج الداخلي الامريكي من النفط. ثانيها، دائما حسب الكاتبين، هو انتشار النزعة الجهادية وعمل الجماعات الإرهابية واختلاف الأجندات بين الولاياتالمتحدة والعربية السعودية فيما يخص إسقاط بشار الأسد ودعم الجماعات الدينية المضادة للمد الشيعي في العراقوسوريا واليمن. أضف إلى هذا أن حالة العنف والفقر والتهميش والضعف البنيوي لكثير من الدول يعني أن الشرق الأوسط، لم يعد "مكانا آمنا بالنسبة للأمريكيين للاستثمار فيه" حسب الكاتبين. أخيرا، فحتى المجموعات التي كانت إلى وقت قريب لها ميول غربية وليبرالية، يقول الكاتبان، والتي كانت تشكل أمل الغرب والولاياتالمتحدة في قيام دول ديمقراطية ليبرالية وعادلة في الشرق الأوسط قد غيرت ولاءاتها وصارت لها أجندة مغايرة عن أجندة الولاياتالمتحدة. ما يعقد المسألة، بالنسبة لسيمون وستيفنسون، هو أن إمكانية إحداث تغيير هام في المنطقة عبر التدخل العسكري، شبه منعدمة. هناك أولا عدم توازن كبير بين تركيبة الجيش الأمريكي التقليدية والحرب التي تقودها الجماعات المتطرفة وداعش بالمنطقة. أضف الى هذا أنه حتى في حال التدخل والانتصار على "داعش" والجماعات الأخرى فإن تحقيق الاستقرار يتطلب دعما من الرأي العام الامريكي ومقاربة متطورة لإعادة الإعمار ومعرفة دقيقة بالمجتمعات المحلية ووجودا عسكريا مهما يدعم جهود الإعمار والتجاوب مع تطلعات الساكنة. هذه أمور تمت تجربتها في العراق وليبيا وكان الفشل حليفها، بل ان النتائج كانت عكسية في مجملها. وحتى ضربات الطائرات بدون طيار، رغم أنها كانت مفيدة في القضاء على قياديين كبار في القاعدة والطالبان فإنها خلقت نتائج عكسية في باكستانوأفغانستان على المستوى السياسي والميداني. أضف الى هذا أن أي تدخل في سوريا يعني حربا بالنيابة ضد إيران لا يمكن التنبؤ بنتائجها على المنطقة. لهذا يقترح الكاتبان مقولة شائعة وسط منظري العلاقات الدولية وهي ما يمكن ترجمته ("حفظ التوازن عن بعد" offshore balancing)، أي الابتعاد عن التدخل الواسع، وبدل ذلك استعمال القوة والتأثير من أجل الحفاظ على المصالح ومصالح الشركاء في المنطقة. رغم أن البعض قد يتحوف من أن هذه المقاربة قد تقوي عود دول مثل إيران، فإن سيمون وستيفنسون لا يظنان أن إيران قادرة على قلب الموازين في الشرق الأوسط بتدخلاتها في العراقوسوريا ولبنان واليمن وفلسطين. والاتفاق الأمريكي الإيراني حول البرنامج النووي الإيراني، رغم أنه لم يرق إسرائيل والسعودية، فهو في مصلحة التوازن في المنطقة والتواجد العسكري الأمريكي في البحار المحيطة بالمنطقة يجب أن يستمر لضمان أمن واستقرار حلفاء واشنطن. وفي رأي الكاتبين فإن الاتفاق حول الملف النووي الإيراني هو خطوة أولى لتحسين العلاقات مع إيران وجرها للتدخل مع الأطراف الأخرى، بما فيها السعودية، لإيجاد حل للأزمة السورية يأخذ بعين الاعتبار المصالح المتضاربة لكل الأطراف. يختم الكاتبان مقالهما بالتأكيد على أن العهد الأمريكي بالشرق الأوسط هو في طور الأفول وأن على الولاياتالمتحدة ان تستمر في ردع التسلح النووي الإيراني وتقديم الدعم لمواجهة انتشار ايديولوجية داعش ولكن دون تدخل مباشر أو محاولة فرض خيارات عسكرية أو سياسية في منطقة تعرف تحولات عميقة لا تتناسب مع أولويات الولاياتالمتحدة الاستراتيجية أو قدرات جيوشها. ما أثارني في هذه المقولة حول نهاية العهد الأمريكي بالشرق الأوسط، هي دحضها لكل النظريات والمقولات التي تقول بوجوب تدخل أمريكي مباشر وواسع النطاق في سوريا واليمن والشرق الاوسط عامة لدحر داعش ومواجهة النفوذ الإيراني وإعادة ترتيب الأوراق في هذه المنطقة التي عرفت هزات عديدة، خصوصا بعد ثورات الربيع العربي. لا يؤمن الكاتبان فقط بأن أي تدخل مباشر ستكون عواقبه وخيمة على الشرق الاوسط وعلى مصالح الولاياتالمتحدة وعلى حلفائها، ولكن يذهبان أبعد من ذلك بأن أولويات استراتيجية أخرى تلوح في الأفق خصوصا على مستوى آسيا والمحيط الهادي وتستوجب عناية مركزة من طرف صانعي القرار الأمريكيين. هذا لا يعني خروجا نهائيا من المنطقة ولكن تواجدا ذكيا وبراغماتيا يحافظ على الاستقرار دون خسائر كبرى على المستوى البشري وعلى المستوى السياسي الداخلي الأمريكي. المشكلة الأساسية التي يطرحها هذا التصور هو أنه يعتمد في تحليله على خلفية التدخل الفاشل في العراق وهو أمر إن وضعناه في سياق التدخل الأمريكي في المنطقة بشكل عام نجد أنه يحيد عن مقاربة تاريخية براغماتية اعتمدتها أمريكا تتوخى الحفاظ على التوازنات والاستقرار والوضع القائم مهما اختلفت الحمولة الإيديولوجية للشركاء أو من تحاول ردعهم. العراق شكل استثناءا لأن المقاربة الإيديولوجية التي حكمت الرؤيا المحافظة الجديدة للشرق الاوسط والعلاقات الدولية هي التي كانت وراء التدخل العسكري وليس تهديدا محتملا للمصالح كما حصل مع حرب الخليج الأولى أو الحرب الأهلية اللبنانية أو الحرب في أفغانستان بعد هجمات الحادي عشر من شتنبر. والتدخل في العراق أبان عن سذاجة كبيرة، بل جهلا في كيفية التعامل مع انهيار نظام صدام والبنية العشائرية للمجتمع العراقي وكذا إشكاليات إعادة البناء والإعمار. لهذا فالتدخل في العراق طرح عدة أسئلة حول الدور الأمريكي وكيفية تكييفه مع تعقيدات المجتمعات التقليدية الشرق الأوسطية. أتصور أن الدروس التي استخلصها صانعوا القرار في واشنطن من المستنقع العراقي سوف لن تثنيهم عن التدخل، ولكن ستدفعهم إلى إبداع طرق جديدة للتعامل مع التهديدات المتزايدة للتنظيمات الإرهابية في سورياوالعراقوأفغانستان. مقاربة براغماتية ترتكز على الحروب بالوكالة وحشد الحلفاء على الميدان وتقديم الدعم اللوجستيكي والمخابراتي ومساعدة القوات الخاصة وضخ المساعدات الإنسانية وتمويل التنمية وإعادة الإعمار ودعم عمل الحكومات الموالية في إطار طوق من التواجد العسكري عبر البحر والجو هو التوجه المحتمل في المستقبل القريب بالنسبة للتواجد الامريكي في الشرق الأوسط. ثانيا، من الصعب تصور تحول كبير فيما يخص الأولويات الاستراتيجية للولايات يصير فيه الشرق الأوسط ثانويا مقارنة مع جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي. لا يتعلق الأمر فقط بالنفط أو أمن إسرائيل (وهي عقيدة ثابتة في السياسة الأمريكية منذ عقود) أو التهديدات الإيرانية ولكن بمنطقة بالغة الأهمية لها تأثير مباشر على أوربا وإفريقيا وغرب آسيا وعلى الاستقرار الدولي بشكل عام، خصوصا وأنها قريبة من بؤرة التوتر في باكستانوأفغانستان والبلقان والقرن الإفريقي والساحل والصحراء ومنطقة البحيرات الكبرى. هذه منطقة حساسة وإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة وستبقى كذلك مادامت عوامل التزاع والتوتر واللااستقرار قائمة ومتواجدة. ثالثا، هذه المقولة لا تأخذ بعين الاعتبار الدور المتزايد لروسيا بالمنطقة وتدخلها المباشر في سوريا، خصوصا في ظل الخلافات الجوهرية التي طفحت على السطح فيما يخص أوكرانيا وجورجيا ودور الناتو على مستوى أوربا الشرقية والتي أعادت إلى الأذهان شبح الحرب الباردة. روسيا تريد أن تلعب دورا أكبر في الشرق الأوسط وخلق تحالفات محلية تعطيها إمكانية التفاوض حول تحديد الأدوار على مستوى جيوستراتيجي في بحر البلطيق والمحيط الهادي وأوربا الشرقية. من الصعب جدا على صانعي القرار في واشنطن القبول بإمكانية التخلي التدريجي عن الشرق الأوسط الذي يزداد فيه التأثير الروسي وربما الصيني بدعم من إيران وحلفائها الميدانيين. لهذا فإن الدور الأمريكي في الشرق الأوسط مقبل على تغييرات جوهرية من حيث المقاربة، ولكن الشرق الأوسط سيبقى أولوية بالنسبة لصانعي القرار في الولاياتالمتحدة. نعم ليست هناك تهديدات مباشرة للمصالح الأمريكية في المنطقة رغم وجود داعش والنصرة وطالبان والجماعات التابعة للقاعدة، لكن التهديد الإيراني والتغلغل الروسي والخطر المحذق بدول الخليج وما يمكن أن يسببه انهيار نظام الأسد على مستوى تقوية عود الجماعات الإرهابية وأخطار تقسيم العراقوسوريا واللااستقرار في اليمن وليبيا، كلها عوامل ستلعب في صالح إيجاد منظومة قوية وأكثر ذكاء وفعالية للتدخل في المنطقة لا العكس.