"لا موسطرا" استضافت ميل غيبسون هذه السنة، الممثل و المخرج الموهوب، قدم فيلمه "Hacksaw Ridge" خارج المسابقة الرسمية، العنوان بالفرنسية هو ("Tu ne tueras point")، عن وجهة نظره في البطولة، و كيف يتصورها. و قد صرح صاحب "القلب الشجاع" في فينيسيا بأنه يكره الحرب، وأنه من المؤسف أن حربا مثل حرب فييتنام، و التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأرواح، لم تكتف، بل قتلت، حتى بعد نهايتها، الآلاف من الجنود الأمريكيين الذين وضعوا حدا لحياتهم انتحارا بمختلف الطرق، دون الحديث عن من انتهت حياتهم بفعل اعاقة أو مرض نفسي أو عقلي. في الوعي العام لدى جميع المجتمعات، الحرب تعني جنود و أسلحة، و في الأفلام السينمائية، الأمر لا يختلف، بل ان هوليود تقدم عادة أبطال الحروب كأشخاص يستعملون ببراعة أكثر من سلاح، و لا يتورعون في قتل العدو، بل يمعنون في تنحيته و مسحه و تفجيره، بل لا يترددون في ابادته و سحقه، لكن فيلم ميل غيبسون الجديد، سيقدم بطلا من نوع آخر، بطل لا يرى مانعا من المشاركة في حرب، و حرب عالمية كبرى عظيمة، لكنه لأسباب فكرية فلسفية و دينية، يرفض أن يحمل سلاحا. رؤية ميل غيبسون الاخراجية من خلال الفيديو الترويجي للفيلم لا تتركك محايدا أبدا، تزرع فيك الرغبة في أن تعرف كيف لهذا الانسان أن يدافع عن نفسه و كتيبته و بلده وسط حرب لا ترحم، وهو من دون سلاح، ثم تكتشف أن "سلاحه" قد يكون أفيد له و للجنود الذين يحاربون معه، و أن انقاذ حياة أصدقائه هي مساهمته و طريقته في تحقيق النصر. الفيلم سيكون في القاعات في شهر نونبر، و أنا أعدكم بعمود (أو أكثر) حول هذا الحدث، ليس فقط لأن قصة الفيلم غير مستهلكة، و لكن أيضا لأن المخرج شخص استثنائي و عبقري ومثقف و صاحب نظرة عميقة للتاريخ و للحياة. هذا العمل السينمائي الذي حمل بطل "ملحمة" ماد ماكس الى فينيسيا، يحكي قصة حقيقية، عن جندي (كابورال) في الجيش الأمريكي، ولد سنة 1919 و توفي سنة 2006، و اسمه "ديسمون دوس"، وكان يعارض حمل السلاح، و مع ذلك لبى نداء وطنه و شارك في الحرب العالمية الثانية.. حرية المعتقد اذن في هذه الحالة ليست فقط نظريات و ايديولوجية، و لا تهم الدين فقط، بل انها تعانق جميع القناعات الفكرية و الفلسفية و العاطفية للمواطن، و الفيلم عبر لقطات "التيزر" يبرز نظرة المجتمع التنميطية و المتسلطة في بداية القرن العشرين، و كيف أن الجنود كانوا ينظرون لبطل الفيلم على أنه مجرد "جبان"، و أن هذا "الرعديد" لا خير يرجى منه أثناء معارك الشجعان، و كيف كانوا يشككون في صدقية قناعته "الروحية"، و كيف اعتبروها مجرد غطاء على ضعف صاحبها.. في معركة "أوكيناوا"، ستظهر مميزات هذا الشخص المسالم، و كيف أن رفضه ل"حمل" السلاح، لم يمنعه من "حمل" أصدقائه المصابين و الجرحى واحدا تلو الآخر، وهم بالعشرات، لابعادهم عن خطر التفجيرات و عن حتمية الموت، حتى و هم، على عكس حالته، يحملون سلاحا تدربوا على استخدامه. لا تعولوا عليه، كانت هذه نصيحة قائد عسكري أشرف على تدريب نفس هؤلاء الجنود، و كان تحذيره يحيل الى "ديسمون دوس"، فقط لأنه لا يحمل "قطعة نار" مثلهم، انه حكم قيمة، حكم على ظاهر الأشياء.. "أندرو غارفيلد"، يمثل في شريط ميل غيبسون السينمائي، دورا مختلفا عن الدور الذي عرف به، و هو "سبايدرمان"، سيؤدي شخصية "خارقة" نعم، لكن بطابع انساني واقعي وحقيقي، شخصية لا تساعدها أي "عناكب" في تقوية قدراتها لدرجة تجعلها فوق معايير البشر.. الأبطال الحقيقيون لا يحتاجون لقناع، الأبطال الحقيقيون أصحاب قناعات، و لذلك يظهر "ديسمون دوس" متسلحا فقط بأفكاره وسط جهنم حقيقية برع في تصويرها "مارتين ريغس" في رباعية "Lethal Weapon"، الرائع غيبسون، و أضفى عليها بعدا انسانيا مكثفا، بنفس معالم كتل العواطف التي يمكنك أن تجدها في "Apocalypto" أو "La Passion du Christ".. في القصة الحقيقية، سيتمكن "ديسمون دوس" من حمل حوالي 75 جنديا على كتفيه، مع أنه لم يكن قوي البنية و البنيان، لكن ارادته الصخرية كانت تساعده في مهمته، لقد كان مقتنعا بأن لا حق له في أن ينزع الحياة من انسان آخر، لكن ليس هذا فقط، فبفضل نفس هذه الفكرة، سيمنع أشخاصا آخرين، من أن ينهوا عمر جنود مثلهم، حتى لو كانوا في الضفة المقابلة، حتى لو كانوا من الجانب الآخر، حتى لو اختلفوا في الولاء.. "ديسمون دوس" بهذا المعنى، حارب على واجهتين، واجهة الحرب الحقيقية "المادية" التي تقتل، وواجهة الحرب "الروحية" من أجل معتقده الذي يحفظ الحياة و ينقذها و يحميها.. هكذا فعل.. خرج من الحرب.. و دخل التاريخ..