كان من حسنات موضوع شريط الفيديو الرديئ الذي وجد صاحبه الوقت و الرغبة و الحافز لكي يصور في حانة أو ملهى، رجل سياسة يستمتع بحياته الخاصة، ذلك الرفض الواسع لفرية التلصص و التجسس و تتبع "عورات" الناس، لكنه أظهر أيضا أن من صور بكاميرا هاتفه، انما دخل الحانة لكي يصلي، فاذا به يرى ما رأى، فلم يتمالك نفسه، انه رأى عجبا، وهو الذي لم يكن يتصور أبدا أن يرى الناس تشرب خمرا و نبيذا اختلفت أنواعه، لقد كانت صدمته كبرى حينما شاهد وزيرا بيده كأس مدام، ذلك أن المكان "أقدس" من هذا الفعل "الشنيع".. صراحة، المصاب جلل، و الكارثة عظيمة.. هذه الحادثة كشفت في الحقيقة أننا مازلنا نحاكم جميع المغاربة على أساس معايير دينية، مع أننا لسنا في دولة دينية، لكن التعليم و كثير من الخطاب الديني و الاعلامي، هو من رسخ في عقول المغاربة هذا التفكير الفاشي، فالتعليم يعطي للتلميذ منذ صغره "قوالب" دينية، و يحثه على رؤية العالم و مواطنيه بناء عليها، و لذلك تجد المغربي يحاكم شريكه في الوطن، النهار بطوله، و الليل بطوله أيضا، بتعاليم الدين، كما لو أننا لم نبرح القرون الوسطى في الوعي و الفكر.. المسلمون "العاديون"، والمسلمون "الموتورون المتوترون"، يستعملون منذ عدة عقود، و عدة قرون في بعض الأحيان، اختراعات أناس ملاحدة، أي بشر لا يؤمنون بوجود الله أصلا، وهؤلاء الملاحدة، لم يمنعهم الحادهم من أن يكونوا عباقرة وأكفاء، و كون المسلمين أناس مؤمنون، لم يمنعهم ايمانهم من أن يكونوا متخلفين في أغلبيتهم الساحقة، فكرا و أدبا و فنا و صناعة و اختراعا واقتصادا و رفاها.. في أوروبا و الدول و المتقدمة، كما قال يوما عادل امام، "بياكلو مع الكباب طحين"، و يشربون الخمر هؤلاء الملاعين، فهل هذا يعني أنهم بدون كفاءة و لايستحق الواحد منهم أن يكون وزيرا، اذا ما رشحه حزبه للمنصب ؟! في "الثقافة" العامية للمسلمين، هناك دائما ربط جاهل بين الخمر و المسكر، فعندهم كل من سيشرب كأسا سوف يسكر بالضرورة، وهذا عته، و يعتبرون كل مسكر خمر، و هذا غير صحيح، و لا يفرقون بين النبيذ و بين الخمر، و يظنون أن الشراب المسكر لا يكون الا مخمرا، و قد يكون مقطرا.. الخ.. في سنوات الدعوة الاسلامية الأولى لم يكن الحديث عن الخمر بهذا الشكل المتشنج الذي يتحدث به المسلمون اليوم، أكثر من هذا، فطيلة 13 سنة من وجود النبي صلى الله عليه و سلم في مكة، كان المسلمون يشربون الخمر بشكل عادي، سواء جاء من اليمن أو من الشام، بل كانوا يحملون معهم الخمور في كل غزوة، للترويح و لغايات أخرى، ولو كان الخمر شيئا سيئا مشينا في حد ذاته لما أغرى الله به عباده المؤمنين.. في غزوة تبوك شرب أحد المجاهدين حتى سكر، ثم دخل حجرة النبي صلى الله عليه و سلم، فقال، فيما أخرجه الطبري عن ابن عباس: ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى خيمته.. وعن ابن عباس أن رسول الله لم يضرب في الخمر الا في أواخر حياته، "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرًا".. ويحكى عن ابن العباس أيضا، أن رجلا شرب فسكر، فانطلق به ابن العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينظر في أمره، فلما حاذى دار العباس انفلت وهرب منه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك النبي من القصة الطريفة، وتركه ولم يأمر فيه بشيء. ونهى رسول الله قومه أن ينتبذوا في الأواني التي تستعمل في الخمر أول الأمر، ثم رجع عن هذا النهي لاستحالة تطبيقه، في حديث "إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا"، وقال ابن عمر: رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه نبيذ، وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه، فوجده شديدا، فرده على صاحبه، فقال له رجل من القوم يا رسول الله: أحرام هو؟.. فكان الجواب: إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب، و هذا دليل على أن النبيذ غير الخمر.. وفي حديث آخر عن شرب الرسول الكريم للنبيذ نجد "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى، فقال رجل يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا، فقال بلى".. وعن أبي موسى قال "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له: المزر، والآخر يقال له: البتع، فما نشرب ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اشربا ولا تسكرا". و قد اعترف الاسلام بمنافع الخمر لشدة تعلق المسلمين بها، فقد كانت لهم في تجارتها منافع، يجلبونها من الشام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح، و مما عرف عن منافعها في زمانهم كما في زماننا، أنها تهضم الطعام، وتقوي الضعف، وتعين على الباه، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان، وتشحذ الأذهان.. الخ.. حتى الآيات من سورة النساء، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ.."، تتحدث عن السكر و الجنابة بمنطق الاجتناب، و الواضح أنها لم تكن مهتمة لا بتحريم سبب السكر و لا بتحريم سبب الجنابة، و منطقها لم يكن صداميا مع عادات كانت منتشرة بقوة بين المسلمين.. وقد كان من نتائج تأخر الدين الاسلامي في تحريم الخمر أو القول باجتنابه، أن المسلمين (من كل الطبقات) تعايشوا معه منذ عهد "الخلفاء الراشدين" الى وقتنا هذا، مرورا ب"الخلفاء الأمويين" و "الخلفاء العباسيين" و "الخلفاء العثمانيين".. الخ.. ولهذا بقي "التحريم"، حبرا على ورق في كل عصور الاسلام.. وقد كتب خالد بن الوليد الى الخليفة عمر في هذا السياق: "أن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة"، و في مسند أحمد رواية عن شرب معاوية الخمر في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنهما، كما أورد ابن تيمية في منهاج السنة، أن عليا رضي الله عنه، هو من كان سببا في أن الله تعالى أنزل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [سورة النساء: 43]، وهذا معناه، حسب ابن تيمية، أن عليا شرب حتى سكر، فقرأ فخلط، و بعد حكم علي، جاء الخلفاء الأمويون و قصصهم مع الخمر معروفة، حتى أن الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك أراد أن ينصب قبة/خيمة على ظهر الكعبة، يجلس فيها ليشرب الخمر، لولا أن أصحابه لم يوافقوه "وجهة" النظر، و اختاروا له مكانا آخر.. يشرب فيه و يسكر.. أحسبه كان حانة.. في قطر..