1- محمود درويش: ما أعمق الرحلة، ما أسمق الشُّعلة وما أصغر الدّولة… على صهوة الحصان الّذي لم يَكُنْ أبَداً وحيداً، يتَخَطّى محمود درويش في كُلّ لحظة ليْلَ الموت ليَنْتَشرَ، كفجْر عظيم، وضّاءً وفسيحاً وجريحاً، بيْن تضاريس نهارنا الصَّعب ومُنْحَدرات زمننا العَصيب. كلماتُه الطّازجة والعابقة بأحشاء الأرض والتّاريخ اللّذيْن أنْجباه جعَلَتْه، كجَبل الكرمل تماماً، رمْزاً عالياً منْ رُموز فلسطين العالية. لذلك حين تمَّتْ، ذات مساء من منْفى الثّورة في بيْروت، برْمَجَةُ لقاء تكتيكيّ بيْن الرّاحل ياسر عرفات والكتائبيّ بيار الجميّل، وعَلمَ الزّعيم الفلسطينيّ، بوسائله الخاصَّة، أنّ بيار سيأتي برُفقة ولَدَيْه بشير (الّذي سيتمُّ اغتياله لاحقاً) وأمين الّذي سيغدو رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة)، اختارَ هُوَ، على نَحْو عميق الدّلالة، أنْ يَصْطَحبَ مَعهُ كلاًّ من سميح القاسم ومحمود درويش، باعتبارهما اثنيْن منْ أعْمَق وأبْهى أبناء الأرض الفلسطينيّة وأكثرهم اضطلاعاً برَمزيَّة حقبة جسيمة كانت الكلمةُ خلالها في الخَنْدق الأماميّ المُواجه للمخاطر المُتشَعّبة الأذرُع والعواصف المّتَعدّدَة المَهَبّات. وإذا كنْتُ لمْ ألْتَق أبداً الرّاحل الكبير سميح القاسم، هو الّذي أحببتُ وأُحبُّ زخَمَه الشّعريّ والنّثريّ العميق والجرّيء، وفتَنني عمله الشّعريّ الباذخ "أُحبّك كما يَشْتَهي المَوْت"، فإنَّني سعدْتُ بلقاء محمود درويش ورُؤْيَة روحه الذَّهبيّة عنْ قُرْب ذاتَ نَدْوة عربيَّة شاركتُ فيها بمكناس. كان محمود قدْ ألقى بقاعة المعرض، بموازاة أشغال النّدوة، نشيدَهُ الفادح والجارح "مديح الظلّ العالي"، وفي نفْس الليْلة جمَعتْني به إحْدى موائد العشاء الّتي جاوَرَنا فيها كلّ من هاني الرّاهب وإلياس خوري وليلى شهيد ومحمد برادة. وقَدْ لَفَتَ انتباهَ دواخلي، ليْلتئذ، مَرَحُ محمود الطُّفوليّ – هو الخارج تَوّاً منْ إلقائه الطّويل والأليم ل"الظلّ العالي" بانكساراته وجنائز تاريخه وشُموخه المُكابر – وقفشاته الضّاحكة المُتبادلة معنا ومع الأديبات والأدباء في الموائد المُجاورة. أحْسَسْتُ فَوْراً، وأنا يافعٌ وقتذاك، بمعنى تعَدُّد أزمنة الشّاعر حين يكون مُتَوَرّطاً حقّاً في أزْمنة جُرْحه الكبير المُتَماسّ مع الفرح البدائي الّذي لا شفاء منه، ومعْنى أنْ يَبْتهج ويُغَنّي وهو على شفير حافات تاريخيّة بفداحة تلك الّتي حَفَرَها ويحفرُها، قبْل الاحتلال وأثْناءه وبتواطؤ معه، وُكلاء الإمبريالية ومرتزقتُها في الشّرق والغرْب الّذين هَنْدَسوا النَّكبة الفلسطينيَّة ويُهَندسون الآن، بعْد تَجْهيل الشُّعوب وتدْمير الاحتمالات المُضيئة، نكباتنا العربيّة الّتي لمْ يَعُدْ فيها، الآن أكثر منْ أيّ وقْت مضى، "يَصلُ الحَبيبُ إلى الحَبيب إلاّ شهيداً أو شريداً" على حدّ تعبير محمود درويش الّذي ظلَّ يعرفُ دائما، مع ذلك، كيْفَ يجْعَلُ ما يورقُ ويعْترشُ يتغلّبُ على ما يتَصَحَّرُ، ويحرص على إبقاء ما ينْتَصرُ في الرّوح أعْلى ممّا ينْكَسرُ في التّاريخ، مصْداقاً للابتهال المُنيف الّذي ختَم به "مديح الظّل العالي" : "يا سيّدَ الجَمْرهْ يا سيّدَ الشُّعْلة ما أوْسَعَ الثَّورة ما أضْيَقَ الرّحلة ما أكبَرَ الفكرة ما أصغر الدَّولة
2- مرحباً بالرّبيع كأعماق حيّة مكابرة مرحباً بالرَّبيع في عالم عربيّ تَصْطَكُّ رُكَبُهُ بزمْهرير الشّتاءات التّاريخيّة المُتعاقبة… مَرْحباً بالأعْماق الحيَّة، المُمانعة والمُكابرة، الّتي لا تطالُها مَراصدُ الحُكّام، وبَلْطجاتُ السّاسة، وتَوَحُّشاتُ غيلان الاقتصاد، وقَصْفُ من اصْطَفَّ بجانب هؤلاء من فضائيات وشبكات إعلاميّة مأجورة… مرْحباً بالبُذرو والقُلوب الخفّاقة بعناد يانع في تجاويف هذا الليل الاختباري الطّويل… مرْحبا بأزهار الحروف المُنْتصرة على قوانين الجدْب الصّحراويّ، وبقامات الغناء الطّالع من أعياد وجدانيّة لا شفاء منها، وبأعراس القلب الّتي تردّ على الحداد المُعَمَّم بفرح استراتيجيّ يمْنعُنا من السُّقوط مع مهندسي السُّقوط الكبير المتواصل… مرْحباً بنا ضمْنَ كلّ ما يولَدُ الآن ويُبَرْعمُ ويُطاولُ ويَخْترقُ صرامةَ الأسوار اللاّمرئيّة الّتي أحاطوا بها حفْلَ الوجود… لَقَدْ حرَّرتْ عشتار حبيبها تَمُّوز من أسْره الشَّتْوي لدى خصيمتها بيرسيفونا، إلهة المَوْت، وأعادتْهُ إلى الحياة بقُوَّة القلْب القادر على كلّ شيء… لأنَّ القلْبَ هو مُرتَكزُ الحرّيّة الكبرى ونورها العظيم…
3- فديريكو غارثيا لوركا: أريد أن أنام نوم التُّفاح… كأنَّه أَحدُ الأجساد المُجَنْدلَة، الصّارخة بملء أفواه الحياة المَغْدورة بالمَوت، في الأسفل المُدلَهمْ للوحة "غرنيكا" لبيكاسو. لأنَّ السّياق التّاريخي المُرَوّع الّذي أمْسكتْ به هذه اللّوحةُ القياميةُ وحفرتْه بالخُطوط والألوان على جدار الزَّمن هو نَفْسهُ الّذي ألقى بفديريكو غارثيا لوركا منْ علياء حُلُمه إلى الإسْفلت البارد لسنة 1936 الوَخيمة. كانتْ حياتُهُ تتَدَلّى يانعَةً منْ شُرْفة ربيعه الثّامن والثَّلاثين حين اعتقلَهُ زبانيةُ الدّكتاتور فرانكو بتُهْمة موالاته للجُمهوريّة وأعْدَموهُ رَمْياً بالرَّصاص على التّلال القريبَة منْ غرْناطة، دونَ أنْ يتمَّ العُثورُ لاحقاً على جثمانه البرّيّ، تماماً كما تنبَّأ بذلك قلبُهُ الغَجَريُّ المُسْتبصر حين كتبَ في إحدى قصائده: وعرفتُ أنَّني قُتلْتُ وبحثوا عنْ جُثَّتي في المقاهي والمدَافن والكنَائس فتَحوا البراميل والخزائن سَرَقوا ثلاث جُثث ونَزعوا أسنانَها الذَّهبيَّة ولكنَّهُمْ لمْ يَجدوني قَط… لوركا، الشّاعر والكاتب المسرحيّ، مُبْدع "حكايا غجريَّة"، و"عرس الدَّم"، و"بيت برناردا ألْبا"، هو الرّوح الخضْراءُ، الاحتفاليّة والتراجيديَّةُ معاً، للأندلس العميقة بزيتونها المُقَدَّس، وأقمارها المُدَوّخة، وقيثاراتها المثيرة للأوجاع العالية، ومُصارعي ثيرانها بيْن حافات الحياة والمَوْت. لذلك لمْ يكُنْ غريباً أنْ تَخْذلَهُ نيويورك بناطحاتها الجليديَّة وفولاذها المتعملق وصخبها غير البَشَريّ، وأنْ يقْفلَ عائداً إلى وطنه الزّاخر بالرّوح الملْحميَّة والمفاتن المُتَوسّطية ذات السَّطوة الوقّادة، وطَنه حيثُ يَرْقُدُ الآن، كفتى أسطوريّ، في سرداب مَجهول تنْفَلتُ منْهُ كلَّ ليلة كلماتُهُ التّالية: أريدُ أنْ أغْفُوَ برهةً، برهةً، دقيقةً، دهراً، لكن ليعْلم الجميعُ أنّي لستُ ميّتاً، وأنّي أحملُ بيْن شفتيَّ إسطبلاً من ذهب، لأنّي أريدُ أنْ أنام نوم التُّفاح …
4- مالارمي: اللّحاق بالطيور السكرانة بين الزَّبد المجهول والسماوات… "الجسدُ حزينٌ، للأسف! وقدْ قرأتُ كلَّ الكتُب. الهرب ! إلى هناكَ الهَرَب ! أشعُرُ أنَّ ثمَّة طيوراً سَكْرانةً لأنّها بيْن الزَّبد المَجهول والسَّماوات ! لاشيْء، لا الحدائق القديمَةُ المُنْعكسَةُ في العيون بوُسْعها استبقاءُ هذا القلب الّذي تُبَلّلُه البحار ! يا أيَّتُها اللّيالي ! ولا الضَّوْءُ المُنْفلتُ منْ مصباحي إلى الوَرَقة الفارغَة المَحْميَّة بالبَياض، ولا حتَّى المرْأةُ الشّابّةُ الّتي تُرْضعُ طفْلَها. سأرْحَل ! أيُّها المَرْكبُ المُؤَرجحُ صاريَتَك، ارْفَع المرْساةَ انْتجاعاً لطبيعة غريبة !" (من قصيدة "نسيم بحري" لستيفان مالارمي)
5- وجه أسمهان الكنعاني وصوتها الذّهبي… يبدو القَدَرُ الشَّخْصيّ للفنّانة أسمهان كما لَوْ كان مُسْتَقْطَعاً منْ صَفحات "الأوديسا". كأنَّها حوريّةٌ ألْقَتْ بها إحْدى عواصف بوسايدون – إله البَحْر القديم – إلى يابسة الصَّخب والعُنْف، قبْلَ أنْ يسْتَردَّها إليْه في النّهاية. لأنَّها عبَرَتْ من الماء إلى الماء. فقَدْ وُلدَتْ على ظهر سفينة في عَرْض المُتوسّط، بحر هوميروس العالي، ولَقيَتْ مَصْرَعَها في "ترْعة" مائية ابتلعَتْ سيّارتَها في الرّيف المصريّ. وبيْنَ هذيْن الحَدَّيْن المائييْن، كان على وَجْهها الكنعانيّ وصَوْتها الذَّهبيّ أنْ يَجتازا، خلال عُمُر قصير كأعمار الشُّهب، اختبارات مَرْحلَة مَفْصليَّة تَقاطَعَ فيها المَسارُ الوُجوديُّ والفَنّيُّ لهذه الشُّعْلة السّامقة مَعَ مسارات مُلْتَبسَة، عاطفيّة و"استخباراتيّة" ألْقتْ بظلالها لاحقاً على "حادث" غَرَقها. وفي اللاّزَمَن "الفَنّيّ" الّذي نَحْنُ شُهودُه الآن، حيْثُ يتكالَبُ ويَتَصايَحُ أشْباهُ الفنّانين وأَشْباهُ الفنّانات، هُنا وهُناك، على وقْع انحطاط الذَّوْق العام وانبطاح جزء كبير من الإعلام أمام الأعتاب المُدَنَّسة للمُسْتَشْهرين والوُكلاء "الفنّيين" ومُتَعَهّدي الحفلات، تظلُّ أسمهان، بصَوْتها المُلْتاع الطّالع من الأحْشاء القصيَّة للْجَوى والهَوى، دَوْحَةً باسقَةً ضاربَةً بجذورها المُزْدَوجة في مطْهر الرّوح وفرْدَوْسها معاً… دْوْحة مُزْمنة تُوَبّخُ بيْداءنا الرّاهنة الّتي تَصْأى فيها الثّعالبُ العابرةُ حَوْلَ فرائسها العابرة. لأنَّ الأعماقَ وَحْدَها تبْقى…
6- فيسبوك أكبر مقبرة افتراضية في العالم… يَتَوَقَّعُ باحثون مُخْتصّون أنْ يتَحوَّلَ موقع التّواصل الاجتماعي فيسبوك إلى أكبر مقبرة افتراضيّة في العالم عنْدَ نهاية القرن الحالي، حيثُ ستكْتَظُّ منَصَّتُه بأْعداد ديموغرافيّة هائلة من الملَفّات الشّخْصيَّة لأشخاص "مُتَوَفّين" ستُواظبُ إدارةُ المَوْقع على إمْطار مُسْتَخْدميه الأحياء بها. كما يتَوَقَّعُ نَفْسُ الخُبراء أنْ تُحافظ سُلُطات هذه القارَّة السّابعة على سياستها في التّعامُل مع ملفّات المُستَخْدمين المَوْتى رغم الانتقادات المريرة الّتي سَبَقَ تَوْجيهُها لها جرّاء اسْتمْرارها في عَرْض مُحْتَويات تَخُصُّ "المُتَوفّين" ودَأَبها على إرْسال إشْعارات تنْبيهيّة بأعْياد ميلاد المَوتى. وقُصارى ما اقْتَرَحَتْهُ هذه السُّلُطات غير المَسبوقة في التّاريخ، لتَخْفيف قَسوة سياستها هذه، تَوْفير خدْمة "Legacy contact" الّتي تُمَكّنُ المُستخْدم(ة) من اخْتيار"وكيل" يقوم بإدارة حسابه(ا) لاحقاً والرّدّ على الرّسائل وطلبات الصّداقة الّتي ستُوَجَّهُ إليْه(ا) بَعْد مَوْت(ا). وعلى هذا "الوكيل" نفسه أنْ يّوَكّل منْ ينوب عنه تحسُّباً لرحيله هو الآخر، وهكذا دواليْكَ إلى آخر السّلالات البشريّة. ويَبْقى الخَيارُ الأعْمَق للإفْلات منْ هذه المَقْبرة القُطْبية الزَّرْقاء، المليئة بالصَّخب والعُنْف، هو إقدامُ كلُّ منْ يعنيه(ا) الأمر على إغلاق حسابه(ا) بنفسه(ا) طالما في الوَقْت مُتَّسَعٌ لاسْترْداد حُرّيّة مَوْت عميق ولانهائيّ كالحياة.
7- برقية من الساهرة في أرض النفري " غلبَكَ في غَيْبَتي كلُّ شيء، وغَلَبْتَ في رُؤْيَتي كُلَّ شيء…" – النّفري، كتاب المواقف والمخاطبات، المخاطبة 46.