تتنوع الأغاني وتتعدد شهرتها وانتشارها، وتبقى واحدة منها الأقرب إلى قلب صاحبها، سواء كان المغني، الملحن أو كاتب الكلمات. يمتد بينهما جسر المحبة والمودة ويزداد تعلقهما بالأخر. هو ارتباط وجداني وعاطفي تأسس منذ مرحلة المخاض فالولادة التي قد تكون عسيرة قيصرية، أو سلسة عادية، ينبني عليها حب عذري لايدركه الجمهور المتتبع، ويبقى دفينا بدواخل الفنان، لايجهر به إلا لماما، حسب ظروف تنزيل الأغنية. إنه بالفعل تناغم غير معلن بين الفنان ومولوده، يحتفظ به إلى الأبد، يريده أن يبقى محفورا داخل قلبه، ينتعش به ويتفاعل معه داخليا، ليكون مصدر إلهامه، لكنه يبقى المحرك الأساسي لجميع مشاعره. سنحاول من خلال هذه السلسلة إماطة اللثام عن هذا المستور وإحراج بعض الفنانين من خلال الإتصال المباشر معهم ،إن كانوا على قيد الحياة، أو مع أصدقائهم، إن كانوا فارقونا إلى دار البقاء، لمعرفة هذه نوعية هذه العلاقة الحميمية بينهم وبين بعض الأغاني المحبوبة لديهم، وتبيان الأسباب الحقيقية وراء هذا الإرتباط العاطفي والوجداني. هي أغاني قد تكون غير معروفة لدى الكثير من المتتبعين للموسيقى، احتفظ بها بعض الفنانين بدواخلهم، كما تحتضن الأم رضيعها لحمايته من كل التأثيرات الخارجية، ليظل بين ذراعيها، يتلمس أحاسيسها وحنانها، بعيدا عن الأضواء. عنصر المفاجأة هو السائد على هذه السلسلة، التي سنفتح فيها العلب السوداء التي احتفظ بها فنانونا لأنفسهم، باعتبارها شأن خاص. سنحاول إذن عزل هذه الاغاني عن اصحابها لوضعها تحت اعيننا، من أجل استنباط أسرارها، بعد قراءتها قراءة تقنية وتحليل مضمون كلماتها ومراميها، في محاولة لإيجاد أسباب هذا الإرتباط غير العادي. "من الصعب عليك أن تميز بين فلذات أكبادك، كل الأغاني الذي أخرجتها أحبها وأعشقها. وهي في مقام بناتي وأطفالي. لكن "أحلى الأغاني" تبقى الأقرب مني، لأنها تربطني بالجمهور العاشق والولوع والسميع، أحس وأنا أغنيها، أنني وسطهم ومعهم، يرددونها معي، ويتجاوبون مع الأداء، كأنهم (كورال). موضوعها عاش داخلي ومازال، يشاركني فيه كل مغرم عاش قصة حب وارتبط بها، وتفاعل مع حبيبته، تبادلا أحاسيس ومشاعر صادقة". كان هذا جواب الفنان محسن جمال عندما سألناه عن الأغنية القريبة من قلبه، أحسسنا من خلاله أنه بالكاد تخلص من الحيرة التي انتابته وهو يصارع أفكاره ودواخله لإختيار أغنية من أغانيه الجميلة. ربما كان تساؤلنا مفاجأة له. لكننا تيقنا أنه كان صادقا ومتفاعلا كعادته معنا. ولما سألناه للمرة الثانية عن سبب هذا الإختيار، عاود مشاورة قلبه وأفكاره، فتسللت الكلمات كالماء الزلال. "عندما يكون لديك أطفال تحبهم جميعا بدون استثناء، لكن يبقى واحد منهم يشدك بحركاته الخفيفة وشغبه الجميل و"تشيطانت ديالو"، يجذبك بعفويته وبراءته. هكذا هي أغنية "أحلى الأغاني"، أشعر وأنا أغنيها بالحنين والرجوع إلى الماضي الجميل، وبالرغبة الجامحة في الغناء، تحرك جوارحي كلها، وأحس أن الجمهور الذي يستمتع بها، شاهد على تلك اللحظات الجميلة التي عشتها، يشعر بي ويتفهمني، ويبادلني نفس الشعور والإحساس". عندما تجتمع في الفنان صفات المغني، الملحن والشاعر، يحصل ذاك التناغم والإنسجام الوجداني، وتنبعث شرارة التفاعل العاطفي. فالفنان محسن جمال هو من كتب كلمات أغنية "أحلى الأغاني" حسب تجربته، وأضفى عليها لحنا يساير عواطفه وأحاسيسه. يقول محسن جمال" كل الأغاني التي أديتها هي من ألحاني، أستشعر أن الجمل الموسيقية تلازمني أينما حللت وارتحلت، فهي بداخلي، تخرج بكل سلاسة وعن كل طواعية بعد الإنتهاء من قراءة القطعة، سواء كانت زجلية أوقصيدة شعرية. فهي مجموعة من التراكمات أعيشها خلال اليومي الذي أحيى به. اختار المقام الموسقي المناسب والإيقاع الذي أحس به وأتلمس نبضه". "أحلى الأغاني" مجهود فكري وعصارة أحاسيس أرهقت كاهل الفنان محسن جمال، تضم مجموعة من الجمل الموسيقية والإيقاعات الجميلة التي بني عليها الهيكل الأساس. مقدمة رائعة، تم وضعها بإتقان، وتم توزيعها بطريقة تناغم الألات الموسيقية فيما بينها، وخاصة ألة الكمان. تتموج حسب الإيقاع المضبوط بامتياز، إلى حين وصول فترة التسليم التي نحس بها تداعبنا برطوبة جميلة جدا، قبل أن يدخل صوت محسن جمال كما ينفذ الهواء النقي إلى رئتنا، فيعطيها نفسا عميقا، تتزن على إثرها دقات قلوبنا. " أحلى الأغاني غنيتها ليك ليك ألحبيب ترجع لي تاني نغنيو أنا وياك الا لا يلالي بعد ذلك يرجع بنا محسن جمال الى المقدمة الموسيقية التي تعيدنا إلى نقطة الصفر، لتتلاعب بنا كما تتلاعب الريح بأوراق الأشجار. إنها متعة دائمة، تلاحقنا على امتداد المقاطع الثلاثة للأغنية. اعتمد فناننا على منطق (ماقل ودل). رغم قصركلمات الأغنية، فان لحنها وغزارة جملها الموسيقية وتنوعها يشعرانك بالإكتفاء الروحي والوجداني. المقطع الثاني للأغنية، يرجع بنا الفنان محسن جمال إلى حوار من طرف واحد، خالج البطل، يعاتب من خلاله الحبيبة عن غيابها، ويؤكد لها أن الورود والأزهار تبحث عنها وتسأل هي الأخرى عن أخبارها، وتريد معانقتها، رغم تواجدها في دنيا لعبت بها وبالحبيب معا. "الورد سولني عليك قال لي حبيبك فين قلت لو تايه وفايه في دنيا لي لعبت بي وبيه تمنيت تاني نغني أنا وياك الالا يلالي انه سرد موسيقي جميل، مزجه محسن جمال بإحساس دافئ، وطوقه بلحن أجمل وجمل موسيقية هادئة وصوت ذي دفء رائع. في المقطع الثالث والأخير، يطير بنا محسن جمال إلى الأعلى، لنسبح معه في عالمه الخاص، ويطلب منا المناجاة معه لتحقيق أماله، ورجوع حبيبته، ليتذكر معها الأيام الخوالي التي عاشاها معا. في يوم في دقيقة أو في وقت ترجع لي تاني ندكرو ونتفكرو الايام اللي عشناها أنا وياك نغنيو ثاني أنا وياك الا يلالي مجملا هذا البناء العام لأغنية "أحلى الأغاني" الذي أسس أعمدته الفنان محسن جمال بصوته وإحساسه وعواطفه الجياشة، كانت تربته معطاء وحمولته ذات سخاء حاتمي. الفضاء العام الذي أحاط بمحسن جمال وهو يصارع ملكات أفكاره من أجل إخراج هذه الأغنية، أدخله في دوامة مفرغة، عانى مخاضا عسيرا. كان ذلك سنة 1983، عندما كانت الأغنية المغربية في اوج عطائها، وكانت الساحة الفنية تزخر بمطربين ذي حنكة عالية. كانت أصوات رائعة، أعطت للأغنية مذاقا جميلا، إلى جانب وجود كتاب كلمات وملحنين في أرقى المستويات. فكان من الصعب وشبه مستحيل، وسط هذا الفضاء الفني المشع، أن يتجرأ فنان في بداياته ويعلن عن منافسته لهؤلاء الرواد، ويصدر أغاني، خلقت انتباها ممزوجا بالدهشة. كيف يمكن لشاب أنذاك من مدينة طنجة، أن يفكر حتى في مجاراتهم. إنها فعلا مغامرة. الجو الفني العام بطنجة في تلك اللحظة، تاثر كثيرا بغياب الفنان عبد القادر الراشدي الذي كان يرأس الجوق الموسيقي بإذاعة طنجة منذ سنة 1964، والذي تم تأسيسه بأمر مولوي للراحل الملك الحسن الثاني. "ولدت أغنية "أحلى الأغاني" سنة 1983 في ظروف جد صعبة. كتبت كلماتها ولحنته بمدينة طنجة. وخلال تلك الفترة، تشتت أعضاء جوق إذاعة طنجة الذي كان يترأسه الراحل عبد القادر راشدي، بعد انتقاله إلى مدينة الرباط لرئاسة الجوق الوطني بعد رحيل الفنان أحمد البيضاوي. وجدت عدة صعوبات ومشاكل لإيجاد عازفين من الطراز العالي للتمرين على هذه الأغنية. فكنت مضطرا للإنتقال إلى مدينة تطوان، حيث كان يتواجد جوق تطوان، برئاسة الفنان إبراهيم التمسماني. وهو بالمناسبة خالي. مد لي يد المساعدة وشجعني ووفر لي كل الإمكانات اللوجيستيكية لإتمام الأغنية. كنت أقطع مسافات طويلة ذهابا وإيابا إلى مدينة تطوان. وكانت الطرق صعبة وقتها. قطعت مسافة 15 ألف كيلوميتر لإخراج هذه الأغنية التي استغرقت مني أزيد من أربعة أشهر. بعد ذلك وصلت المرحلة الاخيرة، انتقلت خلالها إلى مدينة البيضاء لإيجاد استوديو لتسجيل أغنية "أحلى الاغاني". وهناك كانت ولادة هذا المولود الجميل الذي افتخر به كثيرا، تعذبت من أجله". على العموم، ورغم كل هذه المحن والمعاناة، يبقى محسن جمال الفنان الذي يحب التحدي والمنافسة والمغامرة، بها وبواستطتها، قدم لنا وردة جميلة.