إن رسالة الإسلام عندما بزغت على العالم وجدته يسير وفق شريعة الغاب، المسلح يسلب المسالم، والقوي يقتل الضعيف، والقبيلة ذات الشوكة تسيطرعلى القبائل المجاورة الضعيفة وتسلب رجالها ونساءها وأطفالها وما تملكه من قوت يومها، فلم يقبل الإسلام بهذه الشرعة الظالمة التي تردت فيها الإنسانية إلى أسفل سافلين؛ بل أعلن في آيات تتلى إلى قيام الساعة، أن الأصل في العلاقات بين الأمم والشعوب والقبائل والأجناس البشرية المختلفة التعارف والتعاون والتكامل، بقوله سبحانه وتعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم.." * الديانات تستقي من منبع واحد على هذا الدرب سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يضق ذرعا بالأفكار والمعتقدات والمذاهب الوضعية آنذاك، ولا بالديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية التي تلتقي وتستقي من منبع واحد مصداقا لقوله تعالى: "شرع لكم من الدين ماوصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .." ولهذا لم يرفع صلى الله عليه وسلم سيفا في وجه أحد أو مخالف، ولم يفاجئ أي جماعة أو طائفة تخالفه الرأي والعقيدة بالغدر والعدوان، وكان يحق له ذلك بعد أن أقام هو وصحابته الكرام بمكةالمكرمة 13 سنة يسامون سوء العذاب، وتصادر حريتهم الدينية والفكرية ويفتنون في أموالهم وأولادهم وأنفسهم؛ بل أكثر من ذلك، طردوا وأخرجوا من مكةالمكرمة وطنهم الأم، وكان الصحابة الكرام كلما هموا بالرد على الظلم والعدوان وجدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حائلا ومرشدا حكيما يدعوهم إلى الصبر، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وزادت المحن والفتن وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في كرامتهم الإنسانية، فها هو "عقبة بن أبي معيط" يتربص به ليطأ عنقه الشريفة، و"أبو جهل" يجده ساجدا فيسارع بإلقاء فرث جزور عليه، و"أم جميل" زوجة أبي لهب تلقي الأقذار والأشواك في طريقه، وإبن أبي العاص يسبه ويشتمه و يسخر منه، و"أمية بن خلف" يبطح عبده بلالا في بطحاء مكة وقت الظهيرة ويضع الصخرة العظيمة على صدره، وهو صابر محتسب لايتكلم إلا بكلمة التوحيد أحد أحد، وبنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وأبيه وأمه ويحرقونهم بالنار، ويمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزد على قوله صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة. * "اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون" لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل زادت قريش في العدوان والإرهاب إذ خططت لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، للقضاء على رسالة الإسلام تماما، ومع كل هذا والرسول عليه السلام يدعوا لهم بالهداية والرحمة والمغفرة ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون"، وفي ظل هذه الأجواء العدوانية والتعدي المطلق على حرية الآخرين في الاعتقاد والتعبير عن وجهات نظرهم، جاء الجهاد (الحرب) دفاعا عن النفس ودفع العدوان والتعدي والإرهاب، وهو بمثابة عملية جراحية خاطفة لاستئصال الداء ومعالجته أو القضاء عليه؛ لأن دين الإسلام دين منطقي واقعي يواجه الواقع كما هو، ولايتهرب منه، ومادامت في النفوس البشرية نوازع الشر ومطامع الأهواء، وحب السيطرة وقهر الآخرين وظلمهم والتحكم فيهم؛ فكان ولابد من الاشتباك والحرب، والحرب نوعان: حرب مشروعة؛ وهي ردع المعتدي وكف الظالم عن ظلمه ونصرة الحق والإنتصار للمظلوم، وهذه الحرب مشروعة ومقبولة نقلا وعقلا وقد أقرتها القوانين السماوية والوضعية والدولية والوطنية، ولها طبعا شروطها ومحدداتها وضوابطها حسب كل زمان ومكان، أما الثانية، فهي حرب فساد وإفساد في الأرض وترويع الآمنين وقتل المدنيين والأبرياء والضعفاء واستعمارأوطانهم، مع الامتلاك والسيطرة على ثرواتهم الطبيعية.. فهذه ليست حرب مشروعة ولا جهاد شرعي، ولا يقبله الله ولا رسول الله صلى الله عيه وسلم؛ بل هو إرهاب بعينه ورسالة الإسلام بريئة منه؛ لأن الإسلام دعوة سلام، ومحبة وتساكن وأمان، دعوة تعايش بين مخلوقات الله الواحد المنان، فالله جل جلاله، عندما خلق البشر لم يخلقهم للموت وللقتال والتقاتل وليفني بعضهم بعضا أو يستعبد بعضهم بعضا؛ وإنما خلقهم ليتعارفوا ويتآلفوا ويعين بعضهم بعضا، فالإسلام يدعو الى استقرار المسلمين واستقرار غيرهم ممن يعيشون على هذه الإرض، وعليه أقول: إذا كانت الحروب واجبة في بعض الحالات الإستثنائة المحددة، فإن السلام اليوم من أوجب الواجبات الشرعية، وضرورة حضارية طرحها الإسلام منذ نزول القرآن على نبي السلام محمد صلى الله عليه وسلم، باعتباره ضرورة لكل مناحي الحياة البشرية، فهو ك"الأكسجين" والماء؛ بدونهما تنتهي الحياة وتفنى، لهذا صلى الله عليه وسلم بمجرد ما استقر في المدينةالمنورة بعد الهجرة إليها، قام بتأسيس نظام مدني دمقراطي من أسسه وبنوده الجوهرية التعايش السلمي، وبالمصطلح الحديث فإنه أرسى مبدأ المواطنة؛ لأن في المدينة آنذاك كان هناك مزيجا انسانيا مختلطا؛ بحيث كان هناك مسلمون ويهود ونصارى ومشركون..فكانت وثيقة المدينة أو دستور المدينة هو الضامن لجميع الحقوق والحامي لهؤلاء الأجناس المختلفة، والكل يعبد الله على شاكلته، ورب العالمين أعلم بمن هو أهدى إليه سبيلا . فكيف وفَّق النبي بين هذه الإنتماءات وبين هذه الاتجاهات وتلك الأديان ؟! هذا الذي اهتدى إليه الغرب، والذي نحن في أمس الحاجة إليه في بلادنا العربية والإسلامية اليوم، وإلا سنصبح نسيا منسيا؛ أو في خبر كان بين الأمم والشعوب !! .. حان الوقت ليجدد وليغير بعض الدعاة والمشايخ خطابهم الديني المتنطع، ونقود شبابنا الإسلامي والعربي وأبناء جاليتنا في الخارج إلى لغة الحوار، ونصرخ جميعا وبصوت عال لا للحروب، لا للإرهاب، لا للقتل، لا للدمار، لا للتكفير، لا للكراهية، لا للتفسيق والتبديع.. نعم للسلام، نعم للحياة ولو كره عشاق القبور . + كاتب عام المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية بالبرازيل.