غادروا المنصة مرتين ثم عادوا، فلا هم ولا ضيوف المسرح الوطني محمد الخامس اكتفوا بمتعة سفر فني ووجداني لا يمحى رفقة الفرقة الفلسطينية الظاهرة "الثلاثي جبران"، أبناء الناصرة، السفراء المعتمدين للتراث الموسيقي الفلسطيني. جنون الارتجال وقوة النص الموسيقي، وصلات بطابع الهوية وانفتاح على الآفاق الفنية القصية، وأكثر من ذلك حالة فنية مشهدية يصنعها إتقان في العزف حد الدهشة، وانسجام حواري بدرجة الاندماج بين الثلاثة، الأشقاء والآلات، فكان أن طالب الجمهور الذي احتشدت به قاعة المسرح بالمزيد، ولبت الفرقة الذائعة الصيت الطلب وزادت عليه، إمعانا في الامتنان والتجاوب مع الاستقبال الدافئ الذي قال سمير جبران، كبير الأشقاء، إنه سيسافر معهم إلى "القدس، قدسنا، وقدسكم". في الرباط، ضيوفا على "موازين إيقاعات العالم" في دورته 15، وقع الثلاثي جبران، سمير ووسام وعدنان النهاية السعيدة لجولة قادته إلى عدة عواصم ومدن أوروبية، في النمسا وسويسرا وإيطاليا وغيرها، وقبل أيام قليلة، كانت الفرقة قد توجت بجائزة زرياب التقديرية للعود في تطوان. عربون احتضان مغربي عجيب للتجارب المتميزة الوافدة من أقاصي الشرق، وخاصة من فلسطين، التي تسكن الخاطر. في عبورها بموازين، أصرت الفرقة التي تعززت قبل ثماني سنوات بانضمام آلة الإيقاع إلى الآلات الثلاث الشقيقة، على توقيف الزمن، مستحضرة صوت الشاعر الراحل محمود درويش الذي رافقها لمدة 13 عاما في حفلات عديدة، تجاور فيها النغم مع الصوت الشعري. سطعت قصائد درويش (انتظرها، على هذه الأرض ما يستحق الحياة….) كخلفية أسطورية غائرة للحن الموسيقي، وتذكر الحضور بحنين واشتياق عبوره اللامع أكثر من مرة على منصة الشعر في المكان ذاته الذي كان محرابا أثيرا له. أكثر من مسألة إتقان، وأبعد من خبرة عركتها السنين والتجارب، يجسد الثلاثي جبران مفهوما للموسيقى كحالة جسدية وجذبة روحية خالصة تتهاوى فيها الحدود بين العزف والآلة. آل جبران يفسحون للعود طريق التربع على عرش المنصة، كما لو يردون دين تراث عائلي يمتد لأجيال أربعة من عازفي آلة العود وصناعه، سلمهم إياه والدهم الفنان حاتم جبران. من ألبومهم "سفر" أهدى الثلاثي مقاطع آسرة حاكت شعورا بالترحال، يعيشونه بالفعل، هم الذين أحيوا خلال الثماني سنوات الأخيرة زهاء ألف حفل، موزعة بين القارات الخمس، ولم ينسوا على أرض المغرب ذكرى فقدان هرم العود المغربي سعيد الشرايبي الذي أهدوا لروحه مقطوعة تحكي قصة الجسر الممتد بن مدارس العود في المشرق والمغرب. يذكر أن مغامرة الثلاثي كفرقة بدأت سنة 2003، إغناء لمسار فردي انخرط فيه سلفا الشقيق الأكبر سمير، الذي أمتع الجمهور أيضا بأداء أغنية "كل دا كان ليه"، و"أهواك". وأصدرت المجموعة حتى الآن ألبومات "تماس" سنة 2003 وألبوم "رندنة" سنة 2004، ثم "مجاز" سنة 2007 و "في ظل الكلام" سنة 2009 و"أسفار" سنة 2011.