سارد أول: هذه المرة كان ذلك حقيقيا، حقيقيا إلى درجة أنني صدمت صدمة فاجعة! اكتشفت هذا الصباح وعلى حين غرة أنني مت، مت حتى لم أعد قادرا على مجرد فتح عيني! ممددا على فراشي لا أتململ. كل شيء مظلم من حولي ولا صوت تلتقطه أذناي. حاولت الحركة دون جدوى، كنت مشلولا تماما، مشلولا وباردا كتمثال! كثيرا ما رأيتني أهوي في قرارة الموت ثم أستفيق مذعورا أتصبب عرقا، وقلبي يكاد يتطاير من بين جوانحي، فأحمد الله على أنني ما زلت حيا. لكن هذه المرة كان الأمر مختلفا وشاقا إلى درجة أنني ابتلعت ريقي بصعوبة كبيرة. لكن كيف سأبتلعه وأنا ميت، ميت جدا!! الحقيقة أن هذه المرة ليست الأولى التي أحسست فيها بالموت يدب في مفاصلي. سبق أن وجدت نفسي مجرورا إلى عمق بئر مظلمة وباردة، وأنا أحاول أن أتشبث بأي شيء في طريقي إلى قعره. انطفأ كل شيء حولي في لحظة. أغمضت عيني واستسلمت لمصيري بعدما اقتنعت بأنه لا منجيَ لي من النهاية المحتومة. لم أدر كم مرّ من الوقت عندما تناهى إلى سمعي صوت آت من مكان بعيد يقول: "إنه يتحرك، ما زال حيا". خلتُني أحلم. لكني تبينت بعد ذلك أنه صوت فتاة. فتحت عيني ووجدتني ممددا على بطني على الإسفلت وألم فظيع في أسفل ساقي الأيسر. كانت البرودة تنهش عظامي وأنا أرتعد في مكاني. حاولت القيام فإذا بصديق لي يمنعني من ذلك ويهمس لي: "الحمد لله أنك مازلت حيا ترزق. اعتقدت أنك مت، لا تتحرك حتى تأتي الشرطة وسيارة الإسعاف". حكى لي كيف كنا نسير على قارعة الطريق عندما صدمتني سيارة من الخلف ورمتني لعشرين مترا وسط الشارع. لحسن الحظ لم تكن هناك سيارة آتية من الجهة الأخرى وإلا لكانت العاقبة أسوأ. ابتسمت رغم الألم والبرودة الشديدة. كنا في عز الشتاء. قلت له بصوت ضعيف: "لي سبع أرواح مثل قط". سألته عن صاحبة الصوت الذي أيقظني من الموت. ضحك وربت على رأسي. جاء رجال الشرطة ثم حضرت سيارة الإسعاف وتم نقلي إلى المستشفى. كانت أمي تقول لي بعد هذه الحادثة إن حياتي التالية زائدة. خرجت من قمقم الموت بأعجوبة نظرا لقوة الصدمة، والمدة التي استغرقتها شبه ميت والتي قاربت نصف الساعة. صوت تلك الفتاة مايزال منطبعا في خيالي كصورة قديمة، رغم أني لم أكن في كامل وعيي لحظتئذ. كأنما بعثني من جديد. أحياني. من قال بأن المرأة تسببت في شقائنا وخروجنا من الجنة!؟ أنا الآن ميت رغم أنني لم أعاين تفاصيل النهاية. أفقت لأجد نفسي كذلك. أحاول جاهدا أن أرتب أفكاري وأتذكر ما جرى قبل هذا الاكتشاف. لا شيء يدور في رأسي. رأسي فارغ وبارد. أرسم في مخيلتي بعض الأشياء التي من المفروض أنها حصلت قبل هذه اللحظة. لا شيء. لكني سأحاول أن أرسم بعضها اعتبارا لكوني أحكي قصة موتي. من المفروض أنني نمت في ساعة متأخرة بعدما قمت ببعض الأمور. وأنا نائم أحسست بيدين غليظيتين تهزانني بعنف. استيقظت مذعورا. ربما كنت غارقا في تفاصيل كابوس. حاولت إنارة الغرفة لكن اليدين منعتاني من ذلك. رفعت جذعي ومددت ذراعي لأكتشف ما الأمر. كتلة هائلة واليدان إياهما تضغطان علي كي لا أقوم. صوت يصم حواسي:" أنت ميت لا محالة!". يطلق قهقهة ارتج لها المكان. جاهدت لأنهض. حولت ذراعي إلى أعلى محاولا لمس وجه من يضغط علي. تحسست يداي جسما غريبا عليه زغب كثيف جدا. تزداد القهقهة قوة لتزيدني رعبا. بجهد جهيد وصلت يداي إلى الوجه. فوجئت بالزغب الكثيف عليه أيضا. أنف ضخم يستحيل أن يكون لإنسان وفم كبير جدا يصدر صوتا أشبه بزئير يتحول إلى هدير رعد ثم تتوالى أصوات الوحوش والانفجارات والرعود والفياضانات بشكل مخيف ومتسارع. زاد الظلام الكثيف من رهبتها. استمر الوضع هكذا، صراع بيني وبين كائن لا أدري حقيقته، والقهقهة إياها مستمرة في التنكيل بما تبقى من قدرة لدي على المقاومة. كيف لي أن أموت؟ لا أريد ذلك لأن هناك أشياء كثيرة علي إنجازها. والأدهى أنني ما أزال في ريعان شبابي! فاجأني الصوت مرة أخرى كأنما ذلك الكائن يقرأ أفكاري: "أنت لا تستطيع أن تتحكم في موتك. ستموت رغما عن إرادتك ولا توجد امرأة يمنع عنك صوتها هذا المآل". أيعلم بشأن تلك الفتاة؟ رفعت ذراعي إلى أعلى من الوجه. اصطدمت يداي بقرنين أعلى الرأس. هل يمكن أن يكون هذا الكائن ما كانوا يهددوننا به ونحن صغار؟؟ أمسكتهما ورحت أتعارك مع صاحبهما وأنا أحس بقوة الضغط ترهقني. فكرت في الاستسلام لكني عزمت على الصمود. كان الضغط قويا. ارتخت عضلات ذراعي رغما عني وأحسست بوهن شديد. أغمضت عيني هذه المرة تماما كما حصل في حادثة السيارة أملا في أن أستفيق لأجد ما حدث مجرد كابوس، وأجد صوت أنثى يعيدني إلى الوجود. لكن ما حصل كان عكس ذلك، انتقلت اليدان الغليظتان إلى عنقي وضغطتا. انقطع الهواء عني. انقطع تماما. ربما جحظت عيناي. كان الاختناق فظيعا ورأسي يكاد ينفجر والألم في عنقي يفوق الوصف. حاولت الصراخ بلا طائل. حتى يداي لم تستطيعا أن تأتيا أية حركة. تحركت رجلاي مثلما يفعل خروف مذبوح. كانت حركات واهية. همدتا. خرج من صدري خيط رفيع تبدد في الظلام. انطفأ كل شيء… سارد ثان: استفقت على صوت صراخ متفجع من الغرفة الموجودة في سطح الدار. قفزت من فراشي مذعورا. كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا على جدار بهو البيت. صعدت الدرج راكضا. وصلت السطح ودلفت إلى الغرفة الوحيدة هناك لأجد أمي تلطم خديها وتولول بصوت يبكي الجبال. تنظر إلى جسد أخي متراميا على فراشه والغطاء منحسر عنه. ساق ممدودة وأخرى مثنية والذراعان منتشران على السرير. حول العنق آثار غريبة كأنه كان يتعارك مع شخص ما. لا، لم تكن آثار يدي إنسان. كان العنق داكنا والوجه شاحبا. رفعتُ يدا فألفيتها باردة جدا. وضعت يدي على صدره. لا نبض. جلتُ ببصري في الغرفة. الكتب على المكتب منتشرة في فوضى. ورقة مرمية فوقه مرسوم عليها وجه امرأة بدون ملامح. مرمد بقلم رصاص. ينبعث من فمها دخان مكتوب في ثناياه: "لا تمت!". على المنضدة الصغيرة بجانب السرير منفضة ملآى بأعقاب سجائر شقراء وأجزاء من سجائر لا أعقاب لها وكأس في قعره شيء من سائل أحمر. زجاجة نبيذ فارغة مرمية بإهمال على الأرض. ورقة بيضاء مكتوب عليها فقرة صغيرة: "كانت أمي تقول لي إن حياتي بعد الحادثة زائدة، والأَوْلى أن أستغلها في أشياء نافعة، وأن أعمل لآخرتي. كنت أضحك. المسكينة. من قال إنني سأموت؟ هي لا تدري بأن ما أعادني إلى الوجود صوت امرأة. جاءت بي إلى الحياة امرأة وأعادتني إليها امرأة. أعادني صوتها. لا فرق بينها وبين صوتها. هناك دائما امرأة تُهديني حياة!.. لكن ما سر الرعب الذي يتملكني عندما أراني في المنام أموت، وعندما أفيق أتنفس الصعداء حينما أكتشف بأنني حي، وبأنني أمتلك متسعا آخر من الوقت لأعرف نساء أخريات كيلا أموت بسرعة؟ لكن ما شكل هذا الموت؟ وكيف سأفعل إذا فاجأني ولم تكن هناك امرأة يمنع عني صوتها مصيري المحتوم؟؟" عبد الهادي الفحيلي