أكتب إليكم أحبائي من جنة الفردوس، حيث لا ظلم هناك... أكتب إليكم وأملي أن تجعلوا من أنفسكم جسورا توصل الحقيقة التي سأسردها لكم. أنا طالب علم أولا، وحقيقةٍ ثانيا، قدمت مكناس لأظفر بالشهادة (الإجازة)، لكنَّ قدري دفعني دفعا لأعانق الشهادة (الموت في سبيل الله)، وإنه لشرف ما كنت أحلم به، فهُبّي رياح الجنة على هذا الجسد الكليل الذي أضناه المسير نحو مرقد الخالدين، وازرعيني وردا يفوح عبيرُه فيخنق أفئدة الحاقدين الذين تربصوا بي يومها(...) ل ا تعجبوا أحبائي إن حدثتكم من عالم الأموات، فما أنا والأموات سواء، لأني شهيد، وحق الشهداء الخلود، كما في الدستور الخالد: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء ولكن لا تشعرون). نعم استُشهدت بعدما قُتلت، وإليكم القصة الكاملة يا سادتي: قدِمْتُ إليها بعدما أخبروني أنها جامعة العلم والمعرفة، أمضيت بها سنة وأنا أرشف من معين صفائها الذي لا ينضب من كثرة العطاء. سهرت وأنا أحلم بِغدٍ تشرق فيه الشمس على معارفي وقد كثرت، وأحلامي وقد صارت حقيقة، وأمي وهي تتوشح البياض في الطائرة التي ستقلع بها نحو الديار المقدسة، وإخواني الذين قاسموني الهم والرجاء وقد صاروا إلى أفضل... كنت أحلم وأتمنى، ونسيت في غمرة أحلامي أن للأماني أعداء يغيظهم أن تعيش حلمك، بَلْهَ أن تحققه، كنت أحلم أن أصير مُحاضرا يُغَيِّرُ حياة الناس، لذلك كنت أتعقب خطوات المحاضرين أينما حلّوا، وقد كان الأمر كذلك يومها لما طارت رجلاي بخفة إلى مدينة فاس لأستمتع بالحوار الهادئ الذي كنت أنشده في ندوة "الإسلاميين واليسار والديمقراطية"(...)، أغراني يا سادتي عنوان الندوة التي نظمتها "منظمة التجديد الطلابي"، مُحاوِلة وضع يَدِها على الجرح الذي طال تعفنه بين اليسار والإسلاميين، عساها تداوي بعضا من جراثيمه المتوحشة، لم أكن أعلم يا أحبائي أن هناك من يريد لهذا الجرح أن يتعفن، ويُرمَى به في دروب التيه والظلمات. الساعة تشير إلى الخامسة من صباح يوم الخميس، حين استيقظت على صوتٍ رخيم ينبعث من مئذنة المسجد، كانت روحي تطير بخفة ورشاقة نحو المسجد مُلبية نداءها الأخير، أتراها كانت تعلم أنه آخر فجر لها في دنيا الناس؟ وأنها ستصلي الفجر القادم هناك في الجنة وراء الحبيب المصطفى؟ لم أكن أعلم يا سادتي ! دقت الساعة العاشرة، واستسلمت لتعب لذيذ بالمقصف الجامعي، ارتشفت فنجان شاي وأنا أتأسف على الندوة التي تم إلغاؤها. قيل لي يا سادتي أن بعض الثعالب من مُحِبِّي الجروح العفنة، توعدت كل من حضر الندوة شرّاً مُستطيرا، وقد رأيتهم يتسكعون في الجامعة، وجوههم صاغرة مُكْفَهِرّة تلتمس رُبُع سيجارة وجَسَدَ فتاة... وقد بلغني بعدما سألت عن حالهم أنهم آخر من بقي من الجيش الأحمر المهزوم الضارب في عُهْر التاريخ، لذلك لا يَرِفُّ لهم جفنٌ ما لم يُقدّموا قرابينهم لآلهتهم: بضعُ لترات من الدم القانئ، وقليل من أشلاء البشر، مع شيء من الأعضاء الطازجة لمخالفيهم، بل وأحيانا لرفاقهم ومناصريهم !. كنت في المقصف لما دخلوا، سمعتهم يتهامسون وهم يشيرون نحوي بسيوفهم وسكاكينهم: "إنه هو.. إنه هو.."، شَرَقْتُ بِرِيقِي وسَرَت بجسدي قشعريرة حين قصدني أحدهم وقد تأبط شرا، ضرب الطاولة وهو يعوي كالجِرَاء: "خْصْكْ تْمُوتْ أَلْخْوَانْجِي خْصْكْ تْمُوتْ... الْيُومَ نْقْتْلُو جْدّ وَالْدِينْ مُّكْ ألْ..." واسترسلوا يبحثون في أعماقهم الآثمة عن أقذع الشتائم وأحطها، قبل أن يُطلقوا العنان لسيوفهم المجنونة تنهش من جسدي كما تشاء، في مشهد أقرب ما يكون لعالم الذئاب وهي تنهش شاةً غابت عن عين راعيها (...) فَرَّ جميع الطلبة من المقصف لتنفرد بي ستة سيوف لم تُبق من جسدي موضعا إلا ونالت منه، أما وجهي فقد ذهبت نضارته، وأما يداي فما عُدت أطيق رفعهما، وأما عنقي ومفاصلي فقد دُقّت بِأيَادٍ احترفت القتل، وأما رجلاي فما عادتا تحملاني... لم تشفع توسلاتي لهم، ولا دمائي التي خضَّبت المكان، ولا الكسور التي عمَّت كل مفاصلي.. لقد أثخنوني يا سادتي حتى يئستُ من التوسل والصياح، وظننت لوهلة أن سيوفهم تتنافس في ضربي لتثبت مضاءها. وكأنهم ظنوا أن السيوف لم تَفِ بالغرض المطلوب، فبادروا إلى الكراسي والكؤوس يلقونها بكل ما أوتوا من قوة جبانة على جسمي المهدود الذي استسلم لجنونهم الحيواني... أخيرا قرروا مغادرة المكان على مضض، فمثلهم لا يشبع من منظر الدم. وهُمْ يَهُمُّون بالخروج.. قام الذي تولى كبْرَه منهم بِتَمْرِيرِ المُوسَى على باطن ساقيَّ فقطع أربطتهما لينهمر شلال دمائي بغزارة أكبر... أطلقوا سيقانهم للريح وهو يُلوِّحُون بسيوفهم وسكاكينهم طربا بانتصارهم في "غزوة المقصف الجامعي" (...) فتحت عينيَّ بصعوبة، فوجدْتُني ملفوفا بعشرات الأمتار من الضمادات.. وثلاث من الممرضات قد تحلقن حول سريري، قالت إحداهن بِعَطفٍ أُمُومِي: "حمدا لله أنك استيقظت من غيبوبتك التي دامت 4 ساعات، حمدا لله يا ولدي أنك لا تزال على قيد الحياة... لقد تمزق جسمك النَّديُّ يا صغير.. لكني لك هنا كأمك، فلا تتحرك يا ولدي..." نزلت كلماتها بردا وسلاما على جسدي الكليل، ثم استطرَدَتْ قائلة: "لقد سمعتك وأنت في غيبوبتك تهمهم بكلام عن الرفيق الأعلى، والابتسامة تزور شفتيك بين الحين والآخر.. وكنت تمد يديك نحو الأعلى محاولا إمساك شيء.. أتُرَاك كنت تحلم يا ولدي؟ وهل لا يزال للأحلام مكان رغم تمزق أوصالك يا ولدي؟" . أجبتها بابتسامة يمزقها الألم، وأومأت برأسي أن نعم، سأظل أحلم يا سيدتي إلى أن تطأ رجلاي الفردوس المنشود. أغمضت عيني حينها وأنا أسترجع شريطا من الذكريات المُزهرة التي جمعتني بإخوة لم تلدهم أمي، يقاسمونك الأفراح والأتراح، كما يقاسمونك رغيف خبز وقطعة فراش في شتاء بارد بإحدى المحافل الوطنية. سَرَتْ بجسدي راحة لم أعرف مَأتَاهَا، وأرخى الليل سدوله على غرفتي التي مزق أنين المرضى بجواري سكونها، أما أنا فقد كنت أتهيأ لمرافقة رسل ربي الذين قدموا لاصطحابي إلى هناك (...) استأذنني ملك الموت في قبض روحي بعدما أخبرني أن السماء تزينت وتضوع ريحها طربا لاستقبالي، فابتسمت له وأنا أتحسس قلما وورقة بجانبي، أخذت القلم وخططت آخر رسالة لكل الأحبة الذين فتحوا قلوبهم لشمس الحوار قائلا: أخي إن ذرفت عليّ الدموع... وبللت قبري بها في خشوع فأوقد لهم من رفاتي الشموع... وسيروا بها نحو مجد تليد.. صوَّبتُ بصري نحو الأعلى وأنا أهمهم: "أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" (...) كان عُرسا بهيجا يا سادتي هناك في السماء، ورأيت عين اليقين ما كنت أومن به علم اليقين، واستبشرت بمرأى السابقين وهم يهنئونني على الثبات، كان الحبيب المصطفى يتقدمهم بثيابه الشديدة البياض وشعره المنسدل على كتفيه.. يا لهف نفسي إنه هو.. إي وربي إنه هو.. أخذني في حضنه الحاني وهو يبشرني بمقعدي في الجنة.. كم هو لطيف حبيبي محمد، يحدثني ويمازحني.. يهدهدني ويخدرني بكلامه المعسول. قال لي ويده تُرَبِّتُ على كتفي: "ما أجمل رائحة دمك وهي تفوح مسكا، هنيئا لك الشهادة يا أخي، وطوبى لإخواني إن ظلوا على جمرهم قابضين.. أبشر بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، سينصرك ولو بعد حين، نم نوم العروسن يا عبد الرحيم". ولكم تمنيت أن يستدير الزمان دورته فأعود إلى الدنيا من جديد، لأعانق مجد الانتماء الرباني، وأَصْبِرَ نفسي مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ابتغاء وجهه، لكن ربي كتب أني إذا خرجت منها لا أعود. ألا فانعمي بالسعادة أمَّ عبد الرحيم.. طوبى لك إذ لم تَلطِمِي خَدّاً، ولم تَشُقّي جَيْباً.. هنيئا لك ثباتك الذي حيّر النفوس، وزاد من عذابات قاتلي... لكأني به يقضم أصابعه ندما على ما اقترفته يداه، ويلعن في أعماقه الذي أغْرَوْهُ بالقتل. شتّان بين المنزلتين يا قاتلي، أنا في النعيم المُقيم أتقلب، وأنت في نار عذاباتك تتحرَّق، فلا أسيادك سيحملون عنك وزرك، ولا رفاقك سيقضون عنك يوما من عذابك.. رُفعت الأقلام يا قاتلي بعدما عَلِقَ دمي بعنقك، وأضحيتَ أسير معاناتك، فبأي ماء ستغسل يديك من دمي يا قاتلي؟ وبأي إحساس ستتزوج وتنجب أطفالك يا وَاتِري؟ أم بأي وجه ستلقى ربك الذي حرّم الظلم على نفسه وجعله محرَّما بين عباده، لقد ظلمتني يا قاتلي واسْتَبَحْتَ دمي فأنَّى لك الهناء؟ حرمتني الحُلم وأشعلت جوانح والدتي نارا، فبُعدا للقوم الظالمين يا شقيّ ! آن لي أن أرتاح في قبري وأنام نوم العروس، لا شيء يؤنسني سوى قرآني الذي حفظته في صدري، وصلاتي التي واظبت عليها حتى آخر لحظاتي، ورضا أمي التي زَفَّتْنِي للحور العين طائعة راضية... وداعا أحبتي، وموعدنا الحوض يا سادتي، فاثبتوا إنكم على الحق يا أهل الحق. وداعا (...) مُحِبُّكم: عبد الرحيم الحسناوي.