الهجرة كتجربة دائمة، استنتاج لغونتر غراس وهو يقرأ أعمال الأديب العالمي توماس مان، انطلاقا من التجربة الشخصية لمان على ضوء الهجرة الكبرى التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ماذا كان سيكون رد توماس مان وغونتر غراس لو اطلعا على احصائيات السنة الماضية، حيث استقبلت ألمانيا وحدها مليون ومئة ألف وافد جديد، بحسب تقرير الهجرة الذي أعدته وزارة الداخلية الألمانية. من دون شك أن الأوضاع في سوريا وأفغانستان والعراق وبعض الدول الأفريقية، لعبت دورا أساسيا في هذا التنقل الذي يصفه التقرير بأنه يفوق أعداد المهاجرين التي سجلتها سنة 1950. فأغلبهم من سوريا (حوالي 40%) وأفغانستان (14%) والعراق (11%). وقد سجل التقرير تراجعا كبيرا في عدد طالبي اللجوء من دول البلقان في الأشهر الأخيرة من العام الماضي. وفي الآن نفسه، أبدى التقرير قلقا كبيرا من تزايد أعداد طالبي اللجوء من دول شمال أفريقيا، خاصة من المغرب والجزائر، بحسب ما ذكرت مجلة دير شبيغل. بل أن الوافدين من دول شمال إفريقيا، شكلوا في الشهر الماضي رابع أكبر مجموعة تقدم طلبات لجوء في ألمانيا بعد سوريا وأفغانستان والعراق، بحسب وزير الداخلية توماس ديميزير الذي أشار إلى أن ذلك يثير القلق ويدعو إلى دراسة هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها. في ظل هذا التحدي الكبير الذي يواجه ألمانيا سواء على مستوى الدولة أو المجتمع، يطرح سؤال كبير حول تأثير ذلك على التعايش السلمي داخل المجتمع وعلى القيم والعادات والتقاليد سواء داخل ألمانيا كبلد استقبال أو على الوافدين الجدد. ربما كانت حوادث الاعتداءات التي عاشتها بعض المدن الألمانية ككولونيا وبريمن وهامبورغ، ليلة رأس السنة، بداية هذا التصادم القيمي. إذ شكل حادث التحرش الجماعي بمدينة كولونيا، صدمة حقيقية في ألمانيا ولا يزال يتصدر اهتمام الرأي العام، في الوقت الذي لم يستبعد فيه سياسيون ألمان إمكانية ترحيل كل من يثبت تورطه في هذا الحادث المرفوض تماما. من جهته لم يستبعد وزير العدل الألماني هايكو ماس إمكانية ترحيل المتورطين في حالات الاعتداء التي وقعت في مدينتي كولونيا وهامبورغ. إذ شدد على معاقبة كل من يعتقد نفسه قادر على أن يكون فوق القانون في ألمانيا بحسب ما جاء في تصريحاته لإحدى الصحف، بل أنه أشار إلى إمكانية تطبيق عقوبة السجن حتى على طالبي اللجوء خلال فترة البت في الطلبات، لكنه شدد في الوقت نفسه على ضرورة التحري والتحقيق الدقيق أولا. وتجد الشرطة الألمانية نفسها تحت ضغط كبير، لذا تواصل تحرياتها وتحقيقاتها الماراطونية حتى لا تتحول هذه الاعتداءات إلى كرة ثلج تلعب لصالح اليمين المتطرف والخطابات العنصرية. وتتركز التحقيقات حاليا على ثلاث متهمين، يخضعون لتحقيقات تفصيلية حول الأحداث التي وقعت قبالة محطة قطارات مدينة كولونيا الرئيسية، حيث هاجم المئات من الشباب، الذين قيل إنهم ربما يكونون من شمال إفريقيا، النساء بهدف التحرش الجنسي والسرقة. وعلى صعيد متصل، تواجه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل انتقادات متزايدة بعد هذه الحوادث، احتجاجا على سياسة الانفتاح التي تنتهجها حيال اللاجئين في وقت يسعى فيه خصومها لاستغلال هذه الحوادث ضد سياسة المستشارة. وتعيد هذه الحوادث المخاوف، التي يثيرها في قسم من الرأي العام، التدفق غير المسبوق للاجئين من سوريا والعراق وأفغانستان والشكوك حول قدرة البلاد على استيعابهم. إنه الجدل الذي يولده في العادة هذا التحدي بين مجتمع الاستقبال ووافدين جدد. تحدي سيغير المجتمع بكل تأكيد ويبقى الرهان الأكبر هو القدرة على استيعاب هذا التغيير والقدرة على التكيف مع تحديات العصر حتى تبقى ماركة سجل في ألمانيا رائدة في العالم، لربما يرتاح غوته في قبره وهو القائل "مجتمع لا يكرم غرباءه مأله الزوال". محمد مسعاد