1- الحداثة ليست مذهبا أوعقيدة، إنما هي رؤية عقلانية للإنسان نحو ذاته وللعالم في تطوره إن البحث في موضوع الحداثة من زاوية استجلاء قضاياه وأسئلته الكثيرة، إنما يعني بالضرورة، رفع النقاب عن الثوابت والمنطلقات وكل أشكال التنميط والتحنيط المسبقين للنظر العقلي أولا كشرط منهجي لولوج عوالم الحداثة الشائكة والشاسعة بالزاد المعرفي والإجرائي، وكجواز مرور يبيح عبور جمارك المسلمات الإيديولوجية المتكلسة، وبالتالي عبور الثوابت الممانعة لدياليكتيك الزمان والمكان. الحداثة إذن ليست موضوعا موحدا في المنطلقات، ولا هي عقيدة أو مذهب محكم البنيان، يكفي استبطان هندسته الداخلية والبنيوية، كي تكتمل بذلك قوة الفهم والإلمام ومن ثمة يسطع نور «الحق ويزهق الباطل» لدى الدارس أو المهتم بموضوع الدراسة. الحداثة إنما هي أبعاد كثيرة وتمظهرات مختلفة لحركة اتصال وانفصال دائمين متجددين بين التقليد والتجديد، إنها في البداية والنهاية حركة تاريخية كبرى تتقاذفها موجتان لا تهدئان عن الاصطدام والتقاطع والتفاعل والتكامل في جدلية دائمة خلاقة دائبة، بحيث كل جديد حديث يولد من رحم المتقادم المستنفذ سعيا لتطويره وتحديثه، تنقيحه أو استدماجه نسبيا أو كليا في أفق التخلي عنه مرة أخرى وهكذا دواليك. إن الحداثة الفكرية في كنهها، قطيعة واعية بالأسئلة المقلقة ذات الصلة بمخاضات التحول والتطور السياسي، الاقتصادي، الثقافي والقيمي للمجتمع في سياق زمني معين. بهذا المعني يمكن تمثل عملية التحديث في جوهرها وأبعادها المجتمعية الكبرى، كونها مقاربة ودينامية متجددة التفكك والتشكل، متضمنة ومتجاوزة لمقومات «التقليد»- الذي شكل في حينه صورة لحداثة مستنفذة- رغبة في إعادة بنائه من جديد، بعد تفكيكه ونزع صفات الثبات، القطعية والقدسية عنه في زمن أفلت شمس حداثته وراء محيط التراث والتقليد. إن عنفوان الفكر وجرأة المقاربات المتموجة ضمن آفاق الحداثة اللامتناهية، تشكل مجتمعة قوة المنهج وشساعة الرؤية في نسبيتها، والأجمل من ذلك أن الحداثة إذ تشتغل دون توقف على تطويع النظر العقلي بما يحقق المنطق والمنفعة معا، فهي بذلك قائمة في انبنائها على ثنائية موصولة الهدم وإعادة البناء...هدم الثوابث واليقينيات، لاستشراف المستقبل بطرح المستجد من القضايا والتساؤلات. 2 – سؤال الحداثة بين العقل والطبيعة والزمن: ثلاثية التفكير، فالتنوير ثم التغيير تأسيسا على ما سلف، نتبين أن الحديث عن موضوع الحداثة، هو في الحقيقة حديث عن حداثة الموضوعات، أو بالأحرى، الحديث عن قضايا الحداثة بالجمع وليس بالمفرد. لذلك، فإن أي تحولات تمس حياة الإنسان ضمن سياقات متباعدة أو متلازمة بظروف الزمان والأمكنة تنحو لإحداث التغيير. إنها تنبثق محملة بسماتها وخصائصها الفكرية ومختلف أشكال التمثل، الاستيعاب، والتعابير الإبداعية سياسيا، فنيا وجماليا أيضا. فثورة الحداثة بمعانيها المحددة آنفا، إنما هي تعبير صادق وبليغ عن ثورة العقل الدائمة، بما هي تجل لطفرة العلوم الحديثة وقوتها التقنية المعولمة. من هذه الزاوية تكتسي تيمة الحداثة شرعية وجودها المتجدد باستمرار. أو ليس لكل زمن حداثته ومحددات تمثله لأبعاد التحديث في أوصاله المجتمعية، وانعكاسها العملي من خلال نمط عيشه، بنياته الاقتصادية، مؤسساته السياسية وسجل القيم والتعابير الثقافية المشكلة لمكونات هويته الوطنية. فالمنطق الرياضي والعقلانية في مقاربة الوقائع المتغيرة يشكلان بالأساس منطلقين لنظرة الإنسان الحديث إلى ذاته وللوجود من حوله، في محاولة إعادة اكتشافهما واستكناه مدلولاتهما وقواهما المتجددة الهائلة والخلاقة. إن الإنسان- ذلك الكائن السياسي- بتوفره على الكفاءة العقلية وقدرته على تطويع الواقع بإعمال ذكائه ومهاراته الفردية والجماعية، تمكن عبر العصور من إحداث الثورات الضرورية، تارة على ذاته، وأخرى سعيا لترقية أسلوب حياته ضمن المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. فعلى امتداد المسافة الفكرية والتاريخية الفاصلتين بين بدايات العيش قي بوثقة المشاع، مرورا بنظام القبيلة، وصولا إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة، برع الفاعل السياسي ضمن باقي التشكيلات البشرية الأخرى في استيعاب أدواره الاستكشافية لآفاق أرحب لممارسة الحكم، شرعنة السلطة، صناعة القيم وتبريرها إيديولوجيا في شكل قوانين ومؤسسات وممارسات معتادة ومقبولة لدى الناس. ففي البدء كانت الغريزة فالمشاعة والأسطورة والقبيلة فالدولة، ثم السؤال فالتأمل والاكتشاف، وبعد ذلك بزغ العقل والعلم والجدال والتذوق لمعاني السعادة والجمال ... محطات كثيرة، متباعدة متصلة، صاخبة هادئة، ظلامية متنورة، قطرية وأممية فمعولمة. تلكم ومضات تحكي حقبا تنازعتها مسارات، قطائع وتمديدات لبرنامج الرحلة البشرية في بحثها الدائم عن حداثة منشودة تحل محل أخرى مفقودة أو مستهلكة. هكذا وبعد بزوغ فجر النهضة الحديثة بالانتقال من فهم وتفسير الظواهر الطبيعة بالأدوات الميتافيزيقية، حملت موجات العلوم في بداياتها مؤشرات لتحول جذري للعقل البشري – بما راكمه من اكتشافات وتجارب وإبداعات- لينتقل معها الإنسان من التركيز على الفضاء الخارجي اللامرئي كمصدر للخير والأذى، إلى الغوص والتحليل في ثنايا الواقع الأرضي المعاش والمحسوس من حوله. ضمن هذا السياق التاريخي المليء بالتحولات والمتغيرات، نزل الفكر الحر من صوفيته ومن أبراج المثاليات إلى حلبة الصراع والتفاعل بين التشكيلات المجتمعية المتناقضة المصالح والمنطلقات والأهداف. هذا التحول العقلاني –الثوري- ساهمت في إحداثه ثورة العلوم الطبيعية والرياضيات والعلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عميق، بحيث انتقل العالم -بموجب هذه النقلة الحضارية الكبيرة- من رحلة التنوير وإضاءة العتمات نحو إعادة تنظيم وترتيب وتطوير ما تم اكتشافه في مراحل التنوير المتتالية. من ثورة الأنوار في فرنسا، مرورا بالثورة الصناعية ببريطانيا وصولا إلى الثورة على القهر والاستغلال بروسيا، ثلاث محطات تاريخية كبرى- رغم تمايز سياقاتها المجتمعية- إلا أنها شكلت مجتمعة موجات جارفة للحداثة والتحديث، أنتجها العقل ووقعتها عبقرية المجتمعات... ثلاث ثورات تجاوزت كل أبعاد الزمان وحدود المكان، زلزلت إثرها كل اليقينيات المتكلسة لقرون حول الإنسان والكون والمجتمع. وبدخول «الإنسان المعاصر» المدجج بكل أسلحة العلم والتقنية والمؤسسات، توزعت انشغالاته إلى عقول: علمية، تقنية، إجرائية وأخرى تركيبية واستشرافية. إن المثير في هذا المسار التطوري والتحولي الجارف للحياة في شتى زواياها المرئية والمحسوسة والتمثلية، هو كون موجات الحداثة في حد ذاتها مرحلية وانتقالية، بل ومفتوحة على كل الاحتمالات والتساؤلات وكذا على الأجوبة... فهي تكتسح الكون بأكمله وتعيد صياغة الإنسان نفسه، من خلال ما تفرضه عليه رهاناتها التقنية، الفكرية، القيمية والسلوكية، وما تخوله له من إمكانيات هائلة للاستفادة من مكاسبها بغية الترقي المادي والاجتماعي والنفسي. إن الحداثة بهذا المضمون تروم في نفس المضمار اشتغالا متواصلا للإنسان على ذاته وضمن جماعته للتحرر من كل الإكراهات التي وضعت سلفا فأضحت تطوق فكره ووجوده، والأنكى من ذلك حين تغدو ملزمة له رغم أنفه وإرادته. فالحداثة تشق طريقها عبر تراكمات الأزمنة، مخترقة كل ما أنتجه العقل البشري من أدوات وآليات ونظريات وتقنيات متطورة..إنها لا تؤمن بالثوابت والمسلمات، بل هي مد تحويلي للنظم والأفكار والقيم، يمارس قوة النفاذ والانتشار عبر شقوق الزمان والمكان، مستوعبا كل ما هو تراثي جامد و مجددا لكل قابل للتحول والتطور نحو أفاق المستقبل الامتناهية. للحداثة بعدان أساسيان لا يستقيم بدونهما النظر العقلي والتحليل الرصين قصد مجابهة قضاياها وإشكالاتها المعرفية. إن ديناميات التحديث التي فجرتها أسئلة الحداثة في عصرنا الراهن تبين من عبقرية الإنجازات التي حققها الإنسان في سياق صراعه مع الطبيعة قصد السيطرة عليها، وتوظيفها بما يحقق تطوره ورفاهيته وتحقيق إنسانيته الأزلية، بيد أنها تسلب منه «حقه الطبيعي» في التريث والتأمل للوقوف على عمق هذه الإنجازات، والقيام بتنقيح رغباته وتحديد حاجياته منها، وكيفية استدماج إيجابيتها النفعية مع الخصوصيات السوسيوثقافية... فما يكاد المجتمع ينتهي من فهم درس من دروسها، والعمل على تطويع مضمونها واستجلاء أبعادها المختلفة، حتى تكون قد استدمجت وتجاوزت هي أفكارنا وطوعت عقولنا بغزوها الكاسح، وأرغمتنا عن وعي أو عن تبعية لصيرورتها الدافعة نحو الجديد الآتي من المستقبل، ولتصبح لذة الحاضر ومنافعه جزءا من الماضي. 3 – ثنائية التقليد والتجديد...مفاعيل الثورات الهادئة ! لقد تشكلت مسارات الحداثة المختلفة كما عرفها التاريخ البشري متلازمة لموجات تحديثية كبرى، لا زالت مفاعيلها الفكرية ومنجزاتها العلمية والتقنية سارية المفعول إلى اليوم... إنها تدفق معرفي مسترسل الصبيب، تجميع طوعي للينابيع المتفرقة في بوثقة سد قوامه العلوم، وأعمدته المؤسسات، ومداخله ومخارجه التقنيات، الكل يشتغل في تناغم وانتظام. بمعنى أوسع، لا تأبه بأي محاولة فكرية لتشخيصها ووصف بداياتها ونهاياتها المفترضة..بل على العكس من ذلك، هي حركة تاريخية واعية تستمد مشروعيتها من العقل ومن المنطق والحتمية، تعمل على إحداث «الصدمات» وكأنها تريد أن تقول «للإنسان إياك أن تستكين لما أنت فيه وعليه الآن، فكن مستعدا باستمرار لفهم ذاتك ومحيطك من أجل تجاوز هذا الفهم الظرفي نحو رؤية جديدة أرحب، يتجدد بمقتضاها واقعك وتفكيرك»..إنها حركية تجعلنا نعيش القلق والتساؤل حول المستقبل و«الجواب» المزعوم عن بداياته ونهاياته.. إن المجتمعات البشرية، بطبعها تحن إلى التساكن والاطمئنان إلى واقعها الأصيل، وتنزع نحو تقديس الثوابت التي ترسخت في وجدانها الجمعي عبر سياقات انبنائها التطوري، وعبر تشكيل روابط الألفة والهوية واللغة والانتماء...وبذلك ما تلبث أن تنجح في تكريس القواسم المشتركة وتركيب نمطها القيمي والثقافي لتبرير منظومتها الاقتصادية، السياسية والعملية، حتى تتجاذبها نزعات ورؤى ومفاهيم جديدة، متجاوزة تلكم الأنساق التقليدية للحياة بحثا عن أخرى أكثر جدة ومنفعة وفعالية، وقادرة على تجاوز شقوق وتصدعات النظم المستنفذة. عملية التضمن والتجاوز والاتصال بغية الانفصال هذه تلخص في مضمونها ومنتهاها تعبيرا عن الغريزة الطبيعية للإنسان ورغبته الجامحة نحو التغيير والعقلنة والتطور. هذا الصراع السرمدي بين التجديد والتقليد، ليس اختياريا ولا هو اعتباطيا كما قد يعتقد الناس، ولا يحدث بمحض الصدفة والتلقائية، بل هو صراع يخضع لقوانين وحتميات التطور منذ الأزل، انه تجسيد لمخاضات دائبة تفسر باقتضاب منطقي كنه الوجود، وجوهر الإنسان ذاته. إنه صراع مفتوح كذلك بين كل الفاعلين والمتفاعلين في حلباته المتنوعة عبر الأجيال المتلاحقة، فهو قانون طبيعي لا يستثني أحدا لكونه شرط عين وضرورة في حياة المجتمعات البشرية. من زاوية معاكسة، يمكننا الاستدلال بمنطق المخالفة على أن ثنائية نفي النفي هذه، ما هي إلا حركية تاريخية مجتمعية تتولد ضمن سياقاتها مختلف الثورات والقطائع عبرأشكال مختلفة للإبداع وللتغيير والمقاومة ... أما إذا التفتنا إلى الحداثة في بعدها السياسي كحركة معلومة وكاسحة للإيديولوجيات الراكدة، وكدولاب معرفي وتكنولوجي فياض بالقيم، وجارف نحو مسالك ومنافذ وأنساق تركيبية متحررة جديدة ومتجددة. إنها ثورة تحديثية للمفاهيم والممارسات المستهلكة، أو قل إنها دورة سياسية جديدة ومحملة برياح التغيير والمساءلة لكل أطراف اللعبة وللفاعلين والمتفاعلين فيها، وكذا للقواعد والآليات المستعملة فيها. موجات تغيير تجتاح أنظمة عتيقة لتشيد على أنقاضها أخرى، أنهار من المعلومات والأخبار والأحداث تغزونا كل يوم مخلفة آثارها البليغة فينا، ومثيرة للرغبات والآمال والتساؤلات الكامنة في وجداننا الجمعي. شلالات من البضائع والمنافع والسلع «تهاجمنا» كل ساعة ودقيقة وثانية، في عالم فوار بالقيم كما بالحمم أوسع من مما نتصور، إنها عوالم الحداثة بكل تحدياتها البارزة ومعالمها الماكرة. إن الخوض في سياقات الحداثة لاستبطان تمظهراتها السياسية المتشابكة يباغتنا في كل آن لينبهنا إلى ضرورة خلع قفازاتنا عند المباشرة، ويراود جموحنا الفكري ويغازلنا بعنف رغباتنا المتحررة، ليسائلنا بقوة المنطق وموضوعية العقل والعلم فنرى وجوها لنا جديدة في المرأة. هكذا هو تمرين الحداثة سهل مركب وبسيط ممتنع... تطويع يومي للواقع المتحول وإعادة ترتيب لأجندات تفكيرنا البائتة. فالحداثة السياسية في وضوحها نقض للفكر الجامد، ونقيض للقوالب المؤدلجة، بل هي بالأساس رؤية منفتحة ومتطورة للكون والإنسان معا، وفهم واستيعاب عميق لمعنى الزمن والتاريخ، كما أنها شكل تركيبي، وتفاعل نسبي الخلاصات للوجود والعدم. وإن نحن حاولنا التمعن في مظاهرها، وأنصتنا ولو بقليل من التركيز في زمن الفوضى والضجيج إلى نبضات موسيقاها، أو قرع طبولها المدوية في اسماعنا، حتى لا نجازف ونقول في وعينا الجمعي، وجدناها تعبيرات وأسئلة مقلقة عما يخالجنا من مطالب وأفكار وأحلام تتجاوز واقعنا الآني نحو رسم معالم غدنا الآتي محملا بالأماني، بالخوف وبالتساؤلات. 4 – القضايا البارزة لموضوع الحداثة القضية الجوهرية الأولى، تكمن في التركيز على العالم الطبيعي، لأنه عالم حقيقي محسوس وقابل للاستيعاب والتطور، ولذلك انصرف إليه العقل بعلومه الكثيرة والمتشعبة، لإشباع رغبة الاكتشاف وتحقيق المنفعة المادية والرمزية للإنسان. هو كذلك عالم يتحدد من خلاله وجود الإنسان قائد وملهم التحديث والتغيير ليثبت من خلاله براعته وقدراته ويطور إمكانياته الذاتية وليس فقط مجرد عالم « حقير وزائل، نعبر من خلاله إلى العالم الثابت الخالد، فهذا العالم المثالي الأخير، ينبغي أن يكون بمثابة بعد آخر للوجود يجتذب اهتمام الروح والأماني الراقية المتسامية، ويمدنا بأسباب التوازن النفسي والسعادة المعنوية. لكن السعادة المنشودة في العالم الطبيعي، تتحقق عن طريق الصراع مع الذات والعقل والطبيعة لاستكشاف القوانين المتحكمة في الوجود وإعادة ضبطها وجعلها تحقق الرفاهية والتقدم. إنها رحلة مسترسلة للإنسان عبر عالم يبحث فيه عن الرغد، الجاه، العلم، والمعرفة كي يحقق إنسانيته ويتجاوز طبائعه وغرائزه «الحيوانية « عن طريق التنقيب والابتكار أواعادة الاستكشاف.وعالم انسي المعاني يسمو فوق تفكيره ليشمل روحه وعقيدته وإيمانه بالمثل والقيم، وفي سعيه الدؤوب لكسب هذا التوازن الصعب بين عقله وبصيرته، رغبة منه في التفوق والسيطرة على الطبيعة، ثم البحث عن استكمال رؤيته للوجود اللامتناهي من خلال السمو بآماله وأمنياته نحو اللامرئي واللاملموس. لكن الحداثة، تجعل من هذه المعادلة اللامتكافئة، منظورا خاصا بها للحياة حيث تعطي فيه الأسبقية للقيم الدنيوية عن الأخروية دون نفيها، وتحول اهتمام العقل من الفضاء اللامتناهي، إلى منافع الأرض وسعادتها الممكنة. القضية الثانية، التي تقدمها الحداثة كموضوع للتتبع والتحليل تكمن في كونها، تسترجع للإنسان حقه المسلوب تاريخيا، وتعتبره هو الكائن الجوهر في هذا الكون، بل هو معيار كل الأشياء وقلب الوجود نفسه، وهو الغاية من التحديث كما أنه الوسيلة الناجعة التي ترتكز عليها رهانات الحداثة كلها، إنها تهدف من هذا المنطلق إلى تفجير مداركه وتقوية جوانبه العقلانية المدركة على غيرها، في أفق تحريره من كوابح نفسه ومجتمعه على حد سواء. فالإنسان هو جوهر التحضر ولولاه ما كان لأي إبداع أي معنى، وما كان لأي صورة وجمال طبيعي أي بعد أو اثر إنساني يذكر. الإنسان كذلك، هو من فهم وثار على الطبيعة كي يحول مجرى التاريخ، وهو من كافح وحارب وبحث ونقب ثم غامر واكتشف ليشيد ويطور... إنه سيد الطبيعة كلها وصانع التاريخ بكل أبعاده، والأهم من ذلك هو الرائد القوي بعقله و القائد بمعارفه الكونية قبل الاستكانة لمعتقادته الذاتية وأمنياته الخالدة. إن الحداثة، تجعل من الإنسان الفاعل الأساسي والمستفيد الأول من عملية التحديث، والمسؤول الأول عن مصيره وقدره، خيره وشره، وكلما كان واعيا بذاته ومحيطه وفاعلا فيه، تحققت شروط سعادته، وإن هو تخاذل وتقاعس عن توظيف قدراته وإمكانياته، تجاوزته الوقائع وتخلف إلى واقع يحكمه المجهول، أصبح عرضة للظلم والتهميش تتقاذفه الصدف والأقدار الغامضة... أما القضية الثالثة الكبرى فتتلخص في الإيمان بالعقل، لأنه قوة وميزة الإنسان ومصدر تفوقه وتفرده ونقوده. إنه الأداة التي يصنع بها الحقائق والمعارف والآليات والأفكار، التي تسهل ظروف عيشه وتؤهله في بسط سيطرته على الوجود. فالعقل ذخيرته العلمية التي تلخص وتستجمع حضارته، والعقل عنوان مجده، الذي يعكس مدى شساعة معارفه حول الكون وعن ذاته. وفيما كان المنهج الاستدلالي سائدا في العصور الوسطى، فإن رواد الحداثة عمدوا إلى اعتبار منهج الاستقراء العقلاني المنطقي والاختباري سبيل الإنسان لاكتساب المعرفة العلمية الصحيحة. وقد لعب هذا المنهج دورا حاسما ومهما في تطور المعارف والعلوم وتراكمها، مما أدى إلى تجدد المفاهيم واكتشاف آليات جديدة قادت البشرية في القرنين الأخيرين إلى ما وصلت إليه من مجد وتحضر. وأخيرا، ربطت الحداثة بين هذه القضايا الجوهرية الثلاثة، بقضية رابعة جامعة ومانعة، أعطت للروابط الإنسانية قيمة حضارية أساسية، لبناء المجتمعات والنظم الحديثة، إنها قيمة عقلانية نسبية، تجلت في تحويل الاهتمام من الميتافيزيقا، إلى الواقع المجسد ومن اعتماد الإنسان كفاعل ومستفيد من تحديث واقعه عبر تجديد آليات تفكيره وأدوات تواصله مع الواقع المحيط به، ومن السعي العقلاني كذلك لفهم قوانين وسنن التنظيم الاجتماعي وتطويرها بما يخدم مصالحه العامة والخاصة. يمكننا أن نلخص مجمل السمات البارزة لمضمون الحداثة، من خلال وضع تقابلات بين الأفكار والقيم التقليدية، من حيث مواضيع المقاربة ونوعية الطرح وعمق السؤال كما يلي : * أعطت الحداثة أولوية للفرد على باقي التشكيلات الجماعية التقليدية * أعطت الأولوية كذلك للعلاقات مع المواضيع والأشياء والأفكار من أجل بلورة تصورات عقلانية وموضوعية، عوض العلاقات بين الناس على أسس عرقية دينية قبلية، أو عائلية. * التميز المنهجي والمطلق بين الذات والموضوع، كطرفين متمايزين في سياق إنتاج واكتشاف واكتساب المعرفة، مقابل نوع من التمييز البسيط كما كان سائدا في المقاربات الكلاسيكية، حيث يحدث الإسقاط والخلط بين الذات والموضوع وبذلك يسقط شرط الموضوعية. * الفصل بين القيم من جهة والوقائع والأفكار من جهة ثانية، بمقابل الدمج والجمع بينهما سابقا. * تقسيم المعرفة إلى مستويات وفروع محددة مستقلة في مناهجها، ومتناظرة في مسائلها الفكرية والعلمية، ومتجانسة من حيث بعدها الإنساني وغاياتها المرسومة مسبقا من خلال حاجة الإنسان إليها وإلى منافعها الكثيرة. بعدما بسطنا الموضوعات النظرية الأساسية للحداثة، من حقنا أن نتساءل عن أبعادها ومساراتها المختلفة وبالتالي مجالاتها المعرفية ؟