أينما كنت في الدارالبيضاء، لن تلق صعوبة في بلوغ وسيلة نقل تقلك إلى الحي المحمدي. تدرك بعدها أن كل الطرق تؤدي إلى «النمرة جوج» بالحي المحمدي. إنها الساحة التي ذاع صيتها والحاضرة في الزمن البيضاوي المليء بالفضاءات والذكريات التي تظل صامدة رغم كل إغراءات الحاضر المثقل بالتناقضات والمصاب بوباء مسخ الذاكرة. ساحة «النمرة جوج» تحتل عند أبناء الحي المحمدي والعديد من بيضاوة مكانة خاصة في ذاكرتهم، وتشغل حيزا لا يمكن محوه خصوصا من ذاكرة العارفين بخباياها.. هذه محاولة لاسترجاع ساحة النمرة جوج. من قلب «المدينة» وبالضبط «مارشي سانطرال» تستطيع دون بذل أي مجهود إيجاد طاكسي كبير. تكفي شارة النصر ليرد عليك «الكورتي» بنبرة حادة «طلع خاص واحد» الوجهة ساحة «النمرة جوج» حيث نهاية السير بالنسبة للطاكسيات الكبار بجانب عمارة من ثمان طوابق. علو يحرك فيك فضولا زائدا ويوقظ فيك حنينا دفينا لتصعد آخر طابق من العمارة وتطل من نافذة صالون الشقة التي غاب رقمها، فترى الساحة وقد فقدت الكثير من ملامحها. حتما ستعود بك الذاكرة إلى محطة الحافلة رقم 2 البرتقالية اللون وهي جاثمة مشرعة أبوابها تنتظر صعود الركاب المتوجهين إلى «الباب الكبير» وصوت مجموعة ناس الغيوان يملأ المكان وهو ينبعث من محل «راديو الجماهير» المتخصص في بيع الأشرطة وأسطوانات 33 لفة لأبناء الحي المحمدي. في مقهى الحي تتلذذ بارتشاف كؤوس الشاي وعبق رائحة النعناع التي تملأ المكان، المحيط ب«رومبوان» صغيرة، تذكرك بما كان قبل سنوات سوقا قارة بجنبات الطريق لعدد من «مالين النعناع». ويدعوك السواد الطاغي على واجهة دكان «أوريك»، حيث يباع الفحم الخشبي، الذي كان يعرف إقبالا كبيرا طيلة فصول السنة، لتستحضر رفضك حمل كيس من الفحم خوفا على ملابسك رغم بساطتها. تتذكر أنك امتطيت سيارة أجرة في اتجاه الحي المحمدي. لم يكن لديك أي انطباع عن مصير فضاء «النمرة جوج» بعد أن فقد الكثير من ملامحه وصرت لا تملك عنه غير ذاكرة تعج بأسماء ووجوه ومواقف كثيرة. تتحقق أمنيتك بلقاء من جمعتك بهم مغامرات الطفولة وعشق الملعب المستطيل بحفرة «الشابو»، الذي تحول إلى حي سكني يسمى «دار لمان»، أو «تيران الطاس»، المجاور لدار الشباب الحي المحمدي، أو غيره من الفضاءات المطلة على «سوق الحيط» و«كاريان سنطرال»، التي صارت إقامات ومجموعات سكنية، أو استعادة ملامح «أولاد الدرب» القدامى، الذين شاركتهم الفرجة على حلاقي «السوق الفوقاني» دون أن تملوا من حكايات «الأزلية» وقصص «بوفسيو والسبع» و«قبعة بو غطاط» و«سيف ذو يزن». مع صوت محرك «الطاكسي لبيض» وهو يمتزج بكلمات أغنية من الزمن الرديء، تقطع المسافة وأنت تتذكر هذا الزقاق أو ذاك. من هنا مررت رفقة بعض أقرانك عندما قررتم أن تبحثوا عن عمل في «العطلة الكبيرة» رغبة في الحصول على بعض القطع النقدية تمكن كل واحد منكم من شراء ملابس الدخول المدرسي والمقررات المستعملة أو المداومة أسبوعيا على مشاهدة أفلام الكاراطي والأفلام الهندية بكل من سينما «السعادة» وسينما «الشريف». تلعن التشويه الذي لحق الأمكنة والفضاءات بفعل قادم جديد اسمه الترامواي. تترجل عند بلوغك الصاكة الصفراء، التي يقال إنها كانت خضراء قرب براكة المسماة «باكاكا» المرأة التي كانت تتقن فن التبراح والتي ما زال هناك من ينسج حولها الكثير من الحكايات. تترك «الصاكة» خلفك، تعبر حي المدرسة تبحث عمن يجادلك عن السوق الذي عوضته المدرسة (العوجة) بلغة أبناء الحي المحمدي، أو مدرستي «الجاحظ و«لالة الياقوت» حسب اسمهما الإداري. أمجاد الكرة كالعديد من أقرانك عشقت لعب كرة القدم. كل الفضاءات صارت رقعا للتباري إلا تلك الرقعة قرب «النيري»، الرجل الذي ينتقم من كل كرة تقع بين يديه. تتذكر «با عبد القادر مول الحمام» و«مبارك السفناج» و«عبد القادر الشيضمي»، فتترحم على من مات وتدعو بالصحة لمن مازال على قيد الحياة. تصادف «الروف الدومي صانتر»، وتستحضر دراجته من نوع ياماها الزرقاء، وتسترجع أنك كنت تتسابق لتحمل حقيبته الرياضية، وتفتخر بهذا الامتياز في اليوم الموالي. يذكرك ب«المدني» وتعترف أن الرجل كان بالفعل «كوايري فنان». حالفك الحظ وأنت تلتقي «الروف» في إحدى المقاهي. مازال بقامته الطويلة وصوته الجوهري، وذاكرته الخصبة التي جادت عليك بمقابلة «ولاد الدرب» ضد فرقة الغيوان قبل تشكل المجموعة. تستحضر صلابة بنيته وتلك الخشونة التي استعملها في حق «بوجميع» بملعب «الشابو»، وهو يذكره قائلا «الكرة هادي آبوجمعة.. لعب». يذكرك «الروف» ب«الغليمي» حارس الملعب المولوع بتربية الخيول من النوع الرفيع. إلى جانب خدمة الملعب الذي كانت فرقة الدرب ب«النمرة جوج» تتقاسمه في التداريب مع «فريق العالم». وأنت قادم من القيسارية قبل بلوغك باب «مقهى قرطبة»، يسترعي انتباهك طلاء واجهة بوتيكا بلون بنفسجي، فتسساءل على التو حول غياب غياب اللون الأخضر لطلاء محل لا تتعدى مساحته بضعة أمتار كتبت على بابه الزجاجي عبارة «خياط الرجاء»، المعروف صاحبه ب«با محماد الرجاوي»، عاشق الرجاء حد الجنون. جعل الرجل من محله محجا لولاد الحي المحمدي وغيره من أحياء البيضاء، وكان يتردد عليه العديد من لاعبي الرجاء والطاس والجيش والوداد. ومن لا يتذكر الحارس «الرشاك» و«بنيني» و«مخلص» و«بتي عمر» و«لحسن». وعن يسارك تتحسر على مقهى الاتحاد البييضاوي، ويحضرك اسم «نومير» ومنزلهم، حيث «مخبزة نوكا» و«زعكورا» لاعب الاتحاد البيضاوي (الطاس) أو «الريال» كما كان اولاد الحي يسمونها، دون نسيان كل من ادريس المهاني وخوه العربي. الكاريان شامخ في الذاكرة كلما خلوت إلى ذاتك، لا تتمالك أعصابك وتغالبك دموعك وأنت تتذكر الكريان أو الواجهة التي كانت تطل على «النمرة جوج» و«العوينة»التي كانت تسقي ولاد الدرب ماء باردا كأنه نابع من عيون المغرب العميق في وقت القيظ. تعيد تشكيل صورة لا تفارق خيالك قط فينبعث أمامك «الجامع الصغير» الذي كان يلقى احتراما كبيرا من متسكعي الساحة ومعربديها. لاتنسى «الشفارة» أصحاب الأنامل الماهرة في التسلل إلى جيوب ركاب الحافلة رقم 2 لتستل منها ما تصادفه من «بزاطم» وقطع نقدية. تغالبك ابتسامتك لما تتذكر واقعة «غراب» بسحنته السمراء وهو يطلي الجامع القصديري بالجير في أحد أيام الصيف، بعد أن وضع «صينية» على قارعة الطريق لجمع مساهمات المحسنين. وخلال انهماكه في العمل، كان أحد المشاغبين من أبناء الدرب يحاول استفزازه بركل «السطل الصباغة» برجله، فلم يجد من يشهده عليه سوى المسجد، وكل مرة يذكر من حوله بصوت خافت، حيث يردد عبارة «شهد عليه.. شهد عليه راني ما ضلمتوش»، ثم أفرغ عليه سطل الجير وطلاه باللون الأبيض. الذهاب إلى «النمرة جوج» هجرة إلى المدن السفلى، التي تحكي عن بطولات الزمن الجميل ببساطة ناسها، وعفوية مراهقيها الذين أبدعوا في صنع السباق على «الكودرون» بواسطة «كرارس اللورمات» ذات اللوح الخشبي المتين وأربع «لورمات»، وأطفال السيلسيون والديطاي يجوبون الساحة وعيونهم على فتاتها وما تجود به أياد كريمة لأناس ألفتهم. غير بعيد عن موقف الحافلات، تقودك قدماك نحو عوينة الكاريان المقابلة ل«ستوديو الانطاكي» فتروي عطشك في حر الصيف بمائها العذب البارد الرائع الذوق. يتسابق ضيوف الكاريان والديور لجلب قارورات الخمسة لترات لتحضير الشاي بمائها الذي يزيد الكأس لذة، ولا يضاهيه ماء «الروبيني» بالمنازل المرتبطة بشبكة الماء. أماكن وأسماء كلما عاود الصعود إلى الطابق السابع من عمارة الخواص التي تطل على الساحة كما هي الآن، يعتصر الألم قلبه بعد أن مسخت ملامحها طريقة تسيير المجالس المتعاقبة على الحي المحمدي التي لم تعط لساحة «نمرة جوج» ما تستحقه كتراث محلي أو جزء من ذاكرة الحي المحمدي. صارت هذه الساحة شاحبة بل مظلمة، لكنها حقا تبقى في ذاكرة أبنائها مضيئة بتاريخها وناسها الذين مروا منها، وزوارها الذين لا يملون من عبورها وكلهم حسرة وأسف فتجد منهم من صارت له القدرة على المرور من الساحة دون تشغيل حاسة البصر ليدرك بحدسه أنه هنا في «النمرة جوج»، إذ مازال هناك في هذه المعلمة ما يستحق الانتباه. يستحضر رائحة النعناع والفواكه الموسمية والخبز البلدي، ونظرات المرحوم «غراب» و«راصطا بورضوان»، و«موال العربي باطما»و«مونضلين الشريف»، ورائحة سمك «با علال» تنبعث من دكانه الصفيحي فتملأ المكان، والأدخنة المشهية لمشواة «كبادي» صاحب عربة الصوصيص والقطبان، وصوت مؤذن جامع الكريان «ضماني»، و«الكبير الكزار». أماكن وأسماء عصية على النسيان. تأبى أن تنمحي ليقف أمام عينيك «مول سيارة التعليم»، السكراتي، بأناقته المعهودة. تسترجع حمام الحرية الذي مازال صامدا بشلل نصفي. يقاوم بنصف واحد مخصص للرجال ضاربا مقاربة النوع بعرض الحائط. أما دوش «الحاجة خدوج» فلازال يرش الماء على أبناء الحي المحمدي كما كان عكس حمام العروبة الذي غزاه الجفاف كأول حمام غير بعيد عن الساحة. تقول مصادر كثيرة إن نزاع الورثة جمد الماء في مجاريه. رائحة الخبز المطهي مازالت تنتشر في فضاء المكان، وهي تنبعث من فران «سي أحمد» المعروف عند أبناء «النمرة جوج» ب«فران صحراوة» غير بعيد عن محل «راديو الجماهير» الذي يشنف المسامع بكل جديد في عالم الأغنية الغيوانية وصيحات العيوط وعبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني والدكالي وغيرهم. كم مرة تتوقف سيارة من نوع فولزفاكن وسيمكا أو فياط لتعلن بمكبر الصوت عن موعد سهرة فنية كبرى أو عرض مسرحي بسينما السعادة، تعلوها صور مجموعة الغيوان أو المشاهب والتنشيط للثنائي الساخر بزيز وباز، ليلتقي أبناء «النمرة جوج» أو «الدوه» وروادها في جذبة غيوانية لاتنسى رغم كل مشاغل الحياة اليومية. مصبنة السعادة وخلفها المقهى العريق المحاذي لبائع الأسطوانات. تحضرك صورة عبد الهادي بلخياط بفوقيته الرمادية يجلس قرب الواجهة الزجاجية وبجانبه سي عمر التلباني، المبدع والشاعر الذي استطاع بمعية صوت الدكالي الظفر بجائزة كبرى من بلاد الكنانة عن أحسن أغنية. با عمر ولد الحي وبالضبط «النمرة جوج» يسكن وسط الكتب والأسطوانات، لايبخل عليك كلما صادفته بقراءة أبيات جميلة بدارجة راقية لاتفرق بينها وبين اللغة العربية الفصحى. قرب منزل با عمر ينتصب «ستوديو الأنطاكي» شامخا يتحدى كل أنواع التكنولوجيات في مجال التصوير الفتوغرافي، يذكرها بطريقة تحميض الصور في الغرفة السوداء وسائل الفيكساتور. تستوقفك صور من الحجم الكبير بالأبيض والأسود بجماليتها الرائعة، توقظ في ثنايا الروح كل خلايا الحنين والنوستالجيا. صور لأصحابها بنظراتهم التي تصيبك بالخجل كأنها تقول لك «الجديد ليه جدة والبالي لا تفرط فيه». «البالي» يحمل معه أشياء جميلة قد لا تحتفظ بها ذاكرتك. هنا في هذا المحل تتذكر مع ولاد الدرب صور التعريف التي صاحبتك في أول خطوة وأنت تودع المسيد في اتجاه القسم التحضيري بمدرسة الجاحظ أو للاياقوت، أو صور القسم الجماعية فتصاب بالألم الجميل وأنت تسترجع أشياء افتقدتها وأخرى فقدت الكثير من خصائصها. كم مرة تصاب بمرض الذاكرة المزمن فتنتصب أمامك هامات رجال منهم من تتذكر أنك صادفته يوما غير بعيد عن الزنقة الصغيرة للكاريان المطلة على الساحة مبتسما وخجولا، يحاول فك معادلة في الرياضيات لأبناء الدرب فينصهر وسط المارة نحو السوق. يذوب وسط أصوات الباعة وغابة من الأرجل التي تسرع الخطى نحو باعة يعرضون بضاعاتهم على جنبات الحائط الذي سمي الكاريان باسمه «كاريان الحايط». إنه ما تبقى من البستان الجميل الذي لم يصمد أمام زحف الصفيح. لنهاية الأسبوع في «النمرة جوج» وقع آخر لا يخلو من فرجة، خصوصا إذا عبر نحو الضفة الأخرى، حيث يؤثث الفضاء حلايقية من كل الأصناف، الملاكمة والأزلية، والتهريج والسخرية والفكاهة مع خليفة والمسيح وزروال وبوغطاط وقاهر العجز الجنسي. تعود للنمرة جوج تجد من ينعش الذاكرة كي لا تذبل في مقاهيها ودكاكينها وجلسات أبنائها في الأفراح والمسرات، فيتسابق أقرانك لسرد ما احتفظت به الذاكرة من قفشات «كيرا» و«خليفة». لا شيء يوقف ذاكرتك ويمنعها من الانسياب في استحضار وجوه وأسماء ومواقف كانت «النمرة جوج» ومحيطها مسرحها. من لا يتذكر «با براهيم»؟ هذا الرجل المعاق والكفيف، الذي يقول إنه أصيب في المقاومة. يسكن في براكته وحيدا غير بعيد عن الساحة. لا يغادرها قط، وكلما حان موعد الصلاة يقف خلف براكته فيشرع في الآذان كل يوم، ثم يحول براكته إلى مسجد. والويل لمن استفزه بلقبه أو ضرب براكته. يستعمل مقلاعه ويرمي بالحجر في كل الاتجاهات فارضا حظر التجول طيلة اليوم. الجميع يعرف ما السر في دأب «با براهيم» على جمع أكوام من الحجر أمام براكته. إنه سلاحه استعدادا لغزوته كلما أحس بإهانة أو استفزاز، والكل يعرف مدى حب «با ابراهيم» لكل المقاومين وأبنائهم وما يكنه لهم من احترام وتقدير. تسترجع الأسماء دون أن تنسى «با عثمان» وهو يزرع الورد في بقعة أرضية ب «الشابو» و«مشيكة» مول الفراخ غير بعيد عن «النمرة جوج»، وبائع بطاريات الراديو المستعملة بعد تعبئتها وإعادة عرضها للبيع. تغالبك ابتسامتك وأنت تستحضر كلب تلك المرأة الوسيطة في الدعارة. كلب عجيب ينام طيلة اليوم أمام البراكة دون أن يكلف نفسه عناء الوقوف أو النباح، كأنه متواطئ مع صاحبته في إفساح حرية دخول وخروج زبنائها. الدارالبيضاء: محمد فايح ت.العدلاني