"أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي". بهذه المعادلة الصعبة كان سعدي يوسف يجيب عن إشكاليته المؤرقة: ديالكتيك الفن و"الإلتزام". وفّى الشعر حقه ولم يخن حلمه الأحمر ولا بدّل القميص. بيد أن الأساسي، كما يبدو لقارئ نصوصه، يكمن في أن نسبة مهمة من شعره هي ثمرة مشي لا يعرف العياء. تجوال لا يتوقف. احتكاك عفوي بالناس (البسطاء على وجه التحديد) وبالحياة اليومية في فورانها. هذا أحد مناجمه. من غير المنصف الإلماع باستمرار إلى أثر يانيس ريتسوس وقسطنطين كفافي في سطوة المشهد اليومي على نص الأب سعدي. وجه الشاعر، سيماؤه، أبلغ في الإجابة نضاحا بوشوم جغرافيات الترحال والتقلب بين الأمكنة والأزمنة. وقصيدته سليلة خطوته الخاصة. مثله الآشوري سركون بولص. الشاعر المشاء الذي جعل من اليومي، عاجنا السيري بالأسطوري في كيمياء سحرية لا يعلم أسرارها سواه، خابيته الرمزية التي لا تنضب. كل خطوة أفق. هذه أمثولة سقراط حين جعل من المشي المقرون بالمحاورة آلية، لا للتواصل الحق، فقط، بل لتعلم الفلسفة، محبة الحكمة. فتح الأرواح على بعضها. لذلك، رأى جان جاك روسو في كل مكتب إشارة تثبط العزيمة. أعلن أنه مدين فيما يخص أفكاره و"أحلام يقظته": ل"تجوالاته التأملية" الطويلة. إذ على إيقاع الخطوات ينتشر مدى من الأفكار والرؤى والمشاعر والحدوس الخبيئة.. أما المشاء الكبير بحق، فهو نيتشه. ألم يقل "وحدها الأفكار التي ترد علينا أثناء المشي لها قيمة"؟ ألم يعدل الكتابة الجيدة بتلك التي لا تتم إلا على وقع الأقدام؟ يكفي أن صاحب "هكذا تكلم زرادشت" كان يضرب في الأرض لأكثر من عشر ساعات. تجوالات ألهمته الآثار التي جعلت منه بتعبير فوكو "أحد الجروح النرجسية الثلاثة للعقل الغربي" إلى جانب ماركس وفرويد. مشاؤون آخرون بدّلوا وجه الفكر والإبداع: هايدغر الذي فضل البقاء في الغابة كي يفترع في كل يوم طرقا بكرا، سيوران القائل "لا يعمل دماغي إلا عندما أستعمل عضلاتي. يوما ما سأكتب بحثا عن المشي"، بودلير كما هو بيّن في "سأم باريس"، بيسوا في الكثير من قصائده، رامبو الذي ذاق طعم التسكع وبث مرارته في أشعاره المخاتلة قبل أن يسلب لبّه سطْع الذهب… في حين يقطع البعض كل صلة ب"الواقع" كما ينغل في الحياة اليومية للمدن، ملتحقا بنسبة ال 85 في المائة من ساكنة العالم "الجالسة"، هؤلاء مجرد حطّابي ليل.. عبد العالي دمياني عمود نقطة عبور (كل أربعاء على صفحات الأحداث المغربية) شارك هذا الموضوع: * اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة) * شارك على فيس بوك (فتح في نافذة جديدة) * اضغط للمشاركة على Google+ (فتح في نافذة جديدة) *