«لاكانكيط فلوري».. جوهرة طريق الرباط البديعة يكره حالتك البئيسة في السنة الحادية عشر بعد الألفين. طريق عادية بلا أشجار الدفلى تتوسطك وتوزعك إلى طريقين اثنين. صرت قاحلة وغابت عنك تلك الخضرة بعد أن اجثت غطاؤك النباتي الأصلي، وحرمتك جهة ما من نظام سقيك الذي كان أولاد المارشي وما جاوره يستفيدون من خدمات مياهه الجارية، ويجدونها رهن إشارتهم كلما احتاجوا إليها، خاصة عندما تشتد حرارة الجو. بصراحة. ارتفعت حدة كرهه لك وازدادت، لما نبتت على جنباتك كائنات إسمنتية عملاقة، ويخشى أحيانا أن ينقلب إلى «دون كيخوط» ويجعل منها طواحينه الهوائية وهو يتوهم مواجهة أعدائه بعد أن حرموه من فضاء الحميمي ورحم انتمائه. طواف المغرب في عام غابر من القرن الماضي. الطوموبيلات تسبق الدراجات الهوائية. ترمي الفانيد والمسكا. رزق أولاد المارشي الذين تركوا الدار الخالية و«البركاصا»، وطلعوا إلى طريق الرباط ليشجعوا «الكورش». ربما. «النجاري». ماشي بعيد. المهم أن الحدث كبير ويستحق اهتمامهم. طواف المغرب تسبقه السيارات وتتلوه السيارت، والفانيد والمسكا دائما. طريق الرباط كم يحبك. طريق الرباط كم يكهرك. يحبك شامخة وأنت تنبعثين من خزائن الذكريات وأولاد المارشي يمرحون على الطوار، أو يتنافسون في تلك اللعبة التي ابتدعوها وأطلقوا عليها «أرقام الطوموبيلات». يختارونك وهم في طريقهم إلى الاطمئنان على «لاكانكيط»، ويفضلونك على «الشفشاوني»، ودار البلجيكية وكلبها الأسود العملاق كأنه حمار أو بغل، لكنه شرس، ينبح ويعض. أمكنة اندثرت يهجرون المارشي ومحيطه. يتخلون عن حراسة الدار الخالية والبئر العتيق والنخلة الطاعنة في السن وهي تعلوه. يتركون «المداومة» على مقربة من «البركاصا» العامرة بمفاجآت «تبقشيشات» الأوربيين وما تزخر به من تحف. كل تبقشيشة عيد وكرنفال وارتجال تمثيليات تليق بالمناسبة في فضاء الدار الخالية وعلى مسرح سطحها وقد تمتد إلى «الرينغ» أو تنطلق أحداثها منه. تعن لهم فكرة حمل غنامئهم مباشرة من البركاصا والانتقال بها إلى «لاكانكيط». يحملون أكسيسواراتهم التي جاد بها الأوربيون على أولاد المارشي. معاطف و«مونطُوات»، قبعات من أحجام وأشكال مختلفة. حتى المظلات متوفرة، والمنظار كذلك، دون نسيان «مكينة الحسنا» التي لا يملكها سوى الكوافور الصبليوني. يعشقون الوقوف على مقربة من كرسي جلوس الحلاق الإسباني وشفتاه وأصابع يده تلاعب تلك الآلة الموسيقية التي فشلوا في معرفة اسمها. الساكسوفوم أو الساكسوفون. المهم أنه يصير نفّارا في عشيات المارشي الهادئة إلا من فوضاهم الأليفة تحت رعاية تلك المصابيح التي لا تضيئ «حتى رأسها». ما علينا. يحملون عدتهم ويقصدون «لاكانكيط» حيث يمثلون أفلام «داق السيف» و«كوبُوي»، ثم مالت الغلبة إلى أفلام الكاراطي في ما بعد، وصار بروسلي وووانكيو والغفال أبطالهم المفضلين. يمرون على سينما بولويوه، ويتركون «الجردا ف التيقار». «الشيخ» رجل طيب وفي مقام والدهم، ولا داعي للإحراج عندما يضبطهم متلبسين بالعبث بنباتاته وأغراسه العزيزة على قلبه كأنها فلذات كبده. «الله يرحمك» أيها الأب الطيب والرجل الهادئ. يستهويهم دائما البستاني وهو منهمك في سقي أشجارك مستعملا ذلك الخرطوم الطويل والعربة أو «كروسة التيو» كما كانوا يسمونها. يتمنون لو يتنازل لهم عن كروسته ليلعبوا بها قليلا، ولا مانع من المجازفة إن هو سها عنها أو أحذ نصيبه من القيلولة. يجعلون منها لعبتهم إلى أن ينتبه إلى مغامرتهم بأداة عمله، فينسحبون راكضين ضاحكين في انتظار فرصة أخرى تجود بها الأيام القادمة. فران الحاج بوشعيب ومدام ميشال. «يالاه.. ما عندنا ما نديرو بيه.. الحاج ما عندوش مع دصارة الدراري.. مرتو الله يعمرها دار واخَّا عينيها بحال الموشَّا وما تتهدرش». مدام ميشال امرأة كالدمية المصنوعة من مادة أقرب إلى البشرة الآدمية. تكتفي بتجميد ابتسامة محايدة على ملامح وجهها الضارب في احمرار وجنتيه كأنها تضع عليه صباغة خاصة! يقطعون رحلتهم على مراحل. أمر يجعل طريقهم المتربة تستغرق وقتا طويلا رغم قصر المسافة. «يقطعون الشانطي»، ويعبرون في اتجاه «تيران كابانا» المعشوشب من عند سيدي ربي. يتركون «الضركَا ف التيقار». شجرة الصبار الضخمة وكر للثعابين وبوصيْحَا. يعتزون بملعبهم المسور ومدخله المحترم، ويكفيهم فخرا أنهم واجهوا فيه صغار الرشاد البرنوصي في عام سها البال عن توثيق رقمه، وانهزموا بست إصابات لإصابة واحدة. يحبك وهم يعبرون في طريقهم إلى «جردة بوكرش» أو لاكانكيط، على «محابق البوعيسي». أُصَص الفخار مقدسة، تدخل في ديكور المكان، ولا ينبغي لهم العبث بها رغم غياب حارس يضمن سلامتها من أذى الكسر المجاني. بل يصيرون حراسها الغيورين. أجرهم «طواجن خيلوطا» كلما حل العيد الكبير. يتفادون «التيرسيان». لا يحبونه ولا يحبهم. زيادة على أنه براني و«قبيح». يعرجون على جردة بوكرش. يتفقدون البئر العتيق. يطمئنون على قعره وسطح مائه القريب. يكفي أن اثنين منهم نزلا إليه، وقضيا يوما كاملا معتقلين في مسبحهما الباطني بعد أن «تقطع الحبل» والتحق بهما. استمرا هناك إلى أن فوجئ الأولاد بهما في إحدى زياراتهم التفقدية لملعبهم المعشوشب حيث يتمرون على التفنن في تصويب ضربات الجزاء وتكوين حراس صغار «لاصاص». إن احتاجوا إلى «البارّات» أو «البُوتُوات» فأبواب لاكانكيط رهن إشارتهم. جريمتهم الوحيدة في حق البناية وما تبقى منها. انبعاث لاكانكيط يحبك ورفاق الشغب الطفولي ينبعثون من الذاكرة كلما سها كأنهم أبطال ملحمة طفولية تسعى إلى إحياء ماضي «لاكانكيط»، وتبعث أمجاد الكاباري من الجدران الصامدة وما تبقى من أطلال الخشبة، والمرقص المفتوح مباشرة على السماء، والمحاط بالممر المائي الذي يحاصر باحة الرقص من كل جانب، والمرصع بتلك القناطر ذات الشكل المحدودب. «لاغوز غوج»، بالعربية «الوردة الحمراء»، أو البار بزليجه البديع وذلك الوهم الذي يخلفه في العين وهي تتوهم الماء يسيل على جنباته. إحساس أقرب إلى التخيل أو هو التخيل. صورتك راسخة في الذاكرة. «اللوايات» (المتسلقات بالفصحى) التي سابت وتدلت إلى أن غطت الباب والنوافذ ذات الهندسات المميزة وقد حفتها «الأحواض». يتجمعون في «الدونسينك» الذي تعلوه النخلة الطاعنة في السن وسعفها يظلل جانبا كبيرا من المكان. يطلقون سراح قواهم الخيالية. يتخيلون بنات الفرنسيس والصبليون والبرتقيز. يتخيلونهن وهن يرقصن على نغمات موسيقى تلتقطها آذانهم على الرغم من الخراب الزاحف كل يوم على البناية التحفة. المقصورات على شكل بيوتات صغيرة تطل نوافذها على شارع الشفشاوني قبالة الضيعة التي صارت مسجدا وحماما. وتلك القبة الشامخة بقرميدها ونوافذها التي صارت بلا زجاج. وحدها الشظايا المتبقية وآثار «الخوامي» تشهد على مجد ولى عهده. وذلك الباب الصغير المؤدي إليها. يعاني عسرا في استحضار صورة «الثريا» المتدلية من سقفك البديع. يختفون خلف «اللوايا» الممتدة في فوضاها على طول حائطك المطل على طريق الرباط. إنه «الماطاب». التسمية السرية التي ورثوها عن «الدراري الكبار»، على كمين انتظار ذلك النوع من السيارات التي يسمونها «البيكوب». تقف السيارة مثقلة بصانديق العنب في أول «سطوب ف الدار البيضا» قبل كلم 7. يتسللون ويفوزون بعناقيد العنب. تسترهم امتدادات «اللوايا»، ثم يعودون سالمين إلى مخبئهم. لا حرج. «الماطاب» مثله مثل «الصوبا» حين يقطعون الطريق عن «الكاميو» ويزينون الشانطي بالليمون أو المندرين. سرقات طفولية رغم أن الخير متوفر في المارشي. إديت بياف وآزنفور بلاكانكيط! المفاجأة كبيرة. استوطنت أرجاء روحه فرحة غير قابلة للوصف. عثر أخيرا على صورة لاكانكيط فلوري. صادفها على صفحة من صفحات الأنترنيت، خلد فيها اليهود المغاربة ذكرياتهم بوطنهم الأصلي، المغرب. قبة لاكانكيط تحفة فنية تستحق الخلود في العوالم الافتراضية. من اليد الآثمة التي رخصت بهدم لاكانكيط وحرمت عين السبع من معلمة تاريخية؟ من الجهة التي أصرت على طمس تاريخ طريق الرباط على بعد أمتار معدودة من «هونكار» محطة البنزين الذي صار مقرا للقناة الثانية دوزيم؟ «لاكانكيط» تحفة معمارية فرط فيها أهل فيلاج كان اسمه «عين السبع» في زمان غابر. انبهر. لم ينبهر فقط. ثبت نظره على الصورة. تجمد مشدوها كأنه عثر على كنز نفيس من ذهب وألماس. إديت بياف مرت من لاكانكيط وأحيت هناك سهرات غنائية! تأمل صورة الفنانة الفرنسية. أنعش الذاكرة وهو يعمل على مقارنة ما يرى بالمكان حيث عاش مغامرات الطفولة. الديكور هو هو رغم ما أصابه من خراب. ليست إديت بياف وحدها. شارل آزنافور عرف انطلاقته من سهرة أحياها على خشبة «لاكينكيط فلوري». هرمان من أهرامات الأغنية الفرنسي مرا من فوق الخشبة التي عبث بها هو ورفاقه من أولاد المارشي. حولوها إلى ملعبهم بعد أن أقفلت المؤسسة أبوابها لظروف طارئة. فكر في مهاتفة شقيقه الأصغر. تمنى لو يلتقي في الحين برفاق مغامراته الطفولية وجولات شغبهم التي لا تتوقف إلا لتنطلق من جديد. «فليطوكس الدبانا». «سينتا بوخارا». «الناعورا». «بلعودا». «فاكس». «عيروض». «لاكاروت». «إبليس». «بيخو». «فيكسي بيكسي»... والآخرون. لاكانكيط مفخرتهم. لعبوا حيث صدحت بياف بروائعها، وترنم آزنافور بأشعار أغانيه. ملعب الطفولة لاكانكيط. ديكور حقيقي يستثمرونه في تمثيل أفلامهم ولا تنقصهم سوى الكاميرا لتخليد مضاهاتهم لما يتابعونه في «أفلام التعاويدا». لأنهم «ولاد المارشي» فمن حقهم أن يستفيدوا من برنامج سينما بوليوه الذي يقوم على إعادة عرض الفيلم الأول عشية الأحد. يختلف الأولاد في رحابك. ينشطرون إلى جيشين متواجهين. لكل جيش زعيم وجنود ومتفرجون غير محايدين. تدور رحى معركة أو معركتين، ثم يتصالحون ويعودون إلى سابق عهد انسجام العصابة تحت رعاية أقواسك وفضائك الرحب وتعدد ملاعبه. الحيطة والحذر أو بلغة ذلك العهد الغابر «لعاك» إذا ظهر «صالح». عيّن الرجل نفسَه حارسا أمينا على المكان، والويل لمن سولت له نفسه الإساءة إلى السكن الذي نزل عليه هدية من السماء. الله يحبه هو وأولاده وبناته. «الله يرحمك آصالح» أيها الرجل العجيب. تطول أيام الدراسة. تطول وتمتد، بل وتتمتط كأنها قطعة من زمان أسطوري يرفض الانصرام. يضطرون إلى الغياب الاضطراري عن ملعب طفولتهم وفضاء شقاواتهم. «خاصهم يقراو»، وأكيد أن الأغراب دنسوه وعليهم أن يتفرغوا لتنظيفه وتخليصه من آثار الجريمة. «سقي سطولة الما من السطاسيون» حق مباح لهم، وليس هناك من يعترض. الأولاد يتطوعون لتخليص مراحيض لاكانكيط من آثار أفعال أشخاص غير مسؤولين. قد يقضون نهارهم في تسريح مسالك المراحيض وهم يشتمون آباء وأمهات كل الذين سولت لهم أنفسهم الاعتداء على ممتلكات أولاد المارشي. يتذكرون البنات «الكاوريات» وهن يتسوقن من المارشي لخضر. يختلفون حول أسمائهن. يسخرون من نطق الحروف. يتباهون وهم يسترجعون فتوحاتهم لمّا يتلصصون على ما تخفي البنات الأوربييات تحت «الصّايات»، ويفتخرون بما فعل «جبّاد لاستيك والسلك» بأفخاذ المسكينات وهن يتلقين «مسامر» صناديق الليمون! صراحة، كانوا مجرمين ولكن أبرياء! تأريخ ذاتي إلى حدود نهاية ستينيات القرن الماضي. يسترجع المسار وهو يحمل مكرها «وصلة الخبز» إلى الفران البعيد جدا كأنه يقع في بلد آخر. لاكانكيط مكان موحش خاصة في العشيات الشتوية. انطلاقا من حانوت «عينين الجرانا» وكراج الصبليون والحلوف الذي يسرح في أرجائه الواسعة، وأولادهم الذين يشبهون كثيرا أولاد المارشي ويعسر التمييز بينهم. على العكس من أطفال الفرنسيين. تأتي اللوايات التي منحها الإهمال فرصة لأن تمتد وتتوسع إلى تخوم رصيف طريق الرباط. إنها لاكانكيط. الكلمة العجيبة التي لم يستوعب معناها، وظلت حكاية أمه تنير استيعابه الطفولي. صاحب المكان لفظ أنفاسه محترقا بنار «الحسيفة». اضطرت الأرملة إلى أن تهجر هي وأبناؤها المكان الموحش لبعد مسافة انفصاله عن أقرب الجيران. خاصة من المغاربة المسلمين. استمرت مغامراته في لاكانكيط ما ينيف عن عشر سنوات. تقريبا إلى حدود 1977. العام الذي أصر فيه شقيقه الأكبر على أن يترك ما جمعه من «بابوش»، ويستحم ويرتدي ملابسه الأنيقة. علاش؟! أصدرت محكمته حكمها النهائي الذي لا يقبل الاستئناف ولا النقض، بأن يرافقه إلى حضور فعاليات الأسبوع الثقافي لتعاضدية كلية الحقوق بالكنسية الواقعة بمحاذاة حديقة الجامعة العربية. عالم آخر كله إثارة، ومغامرة أخرى تستحق الاهتمام. التحق بعدها بنادي السينما الجديدة وصباحات أيام الآحاد الأخاذة والشيقة. قارة جديدة اكتشفها، كلها إثارة ودعوة إلى الانفصال عن المارشي وأولاده وهو لا يعلم أن عالمه الطفولي آيل إلى اندثاره. المارشي موضوع لتخطيط يروم محوه من مركز «ساحة الجمهورية»، ولاكانكيط وعاء عقاري يسيل لعاب سماسرة الأراضي. مشكلته إلى يومه هذا، أن الأطلال ما زالت قائمة إلى الآن وتذكره كلما زار عين السبع بما كان في زمان غابر. طريق الرباط كم يحبك. طريقك الرباط كم يكرهك. بنكا حدا بنكا حدا عمارا حدا بانكا. ثم آثار «لاكانكيط فلوري» التي صارت خربة و«جردا» قاحلة. لكنك حين تنبعثين من الذاكرة، تشمخ لاكانكيط في ترصيعها للمكان. دون مواربة ولا قناع الكتابة. طريق الرباط أكرهك بعد كل المسخ الذي طالك والسلام. جمال زايد