ما زال الرأي العام يتذكر كيف أن الشوباني ، الوزير السابق من حزب العدالة والتنمية (قبل أن تتم إقالته بعد الفضيحة المعلومة) هاجم صحفية في البرلمان بدعوى أن "لباسها غير محترم"، وهو التهجم الذي أشر على سلوك خطير يترجم التصورات والتمثلات الثقافية لتيارات الإسلام السياسي، سواء منها تلك التي تخترق المؤسسات من بوابة "الشرعية السياسية" و الانتخابات، أو تلك المتمترسة خلف الخلايا النائمة في انتظار "ساعة الحسم" للانقضاض على مؤسسات الدولة من بوابة "العنف الشرعي" وحلم الخلافة، وهي التمثلات نفسها التي تشحن بها التيارات الأصولية عقول التلاميذ ، والطلبة، وعموم المواطنات والمواطنين، فيما يشبه دولة داخل دولة، في الفضاءات العامة والخاصة. في الشارع، والمدرسة، والجامعة، والمسجد، والجمعية، والقطار، والاوطوبيس، والسوق، والمقهى، والحمام،..... لتجييشهم ضد بلادهم بوصفها بلاد الفاسقين والفاجرين، وضد أبناء الوطن الواحد بزرع بذور التفرقة بينهم، وتقسيم المجتمع إلى طائفة الكفار، وطائفة المؤمنين. طائفة الصالحين، وطائفة الأشرار... وهي التمثلات نفسها التي "تمنعهم" من إدانة الإرهاب الظلامي، وكل أشكال التضييق على الحريات العامة، واعتبار ما يجري دفاع عن الأخلاق والشرف. وهي التمثلات نفسها التي تسعى إلى تنميط الأفكار، والسلوكات، في التعبد،والمأكل،والمشي،والنوم،والاستحمام،والحركة،والحلم،والسفر،والزواج، والنكاح،والتطليق......الخ.. ليصبح الكائن البشري واحدا، قابلا ليهب نفسه وروحه في أية لحظة خدمة "للرسالة السماوية" كما يتصورها شيوخ التيارات الدينية المتطرفة، سواء منهم من يلعب ورقة المشاركة السياسية، أومن يلعب منهم أوراق الممانعة بتكتيكاتها المختلفة. وبقدر ما تطرح هذه القضايا – مع اتساع المد التقليداني، والأصوليات المتطرفة- المحلية منها أو العابرة للأوطان-، أسئلة حقيقية عما يتطلبه الوضع من تأهيل مجتمعي، وثقافي، وتربوي، وتعليمي يقوم على بناء العقول وفق مستلزمات الوطنية، والمواطنة، تطرح اليوم واقعة انزكان المرتبطة بمتابعة فتاتين بتهمة "المس بالحياء العام" أسئلة عديدة تتعلق أساسا بسلوك الدولة إزاء بعض الوقائع التي تطرح علامات استفهام كبرى عن راهن ومستقبل المشروع الحداثي الديمقراطي ببلادنا، وعن مدى استعداد ها للدفاع عن الاختيارات التي يفرضها هذا المشروع دون تردد.. وهي قضايا بقدر ما تشكل امتحانا للمغرب ولمشروعه المجتمعي، بقدر ما تسائل أيضا الوعي المجتمعي بقضايا تهم حرية الناس، وحقوقهم المدنية ، ومدى تعبئة المجتمع المدني وقدرته على مواجهة مختلف الهجمات المتطرفة التي تستهدف الحريات العامة. وإذا كان البعض يعمل (بشكل مقصود) على التقليل من خطورة ما يجري، وتصويره وكأنه تهويل مقصود، وترويع متعمد لمجتمع مسالم، وتضخيم لوقائع عادية...، فان البعض الاخر، الذي يجاهد عبر الصحافة الالكترونية، (وبالخصوص في هذا الشهر المبارك حيث يلعب المجتمع كله دور الفقيه، والمرشد ، والواعظ ليتجند – كالعادة - لتذكيرنا بأن المغرب بلد إسلامي، ويستوجب – والحالة هاته - تطبيق شرع الله ضد كل من تسول لها نفسها خدش الحياء العام، وزعزعة عقيدة مسلم بلباسها المثير للفتنة المجتمعية، وللشهوات الغريزية البهيمية التي تسكن الذكور الذين يتفرغون بعد الفطور لاقتحام المواقع الإباحية بحثا عن محو أثار الجرائم العالقة فيما سماه فرويد الملعون بدائرة" اللاشعور". وعودة لواقعة انزكان، نتساءل.. لماذا تورطت النيابة العامة فيما جرى؟ إن وقائع هذه المتابعة تطرح سؤالا صريحا وواضحا.. هل النيابة العامة بالمغرب تستوعب ما يجري في بلادنا من تحولات أم لا؟، وهل هي قادرة على فهم منطوق الدستور أم لا؟ وهل تصدر التعليمات بالنزوات أم بالعقل؟. فهل كان من اللازم بناء على مقتضيات المادة 66 من المسطرة الجنائية الأمر بالاعتقال الاحتياطي للفتاتين في وقائع من هذا النوع ؟ هل يتعلق الأمر بجريمة كاملة الأركان؟ أو بجريمة تستلزم فتح تحقيق حتى تأمر بوضع الفتاتين رهن الاعتقال الاحتياطي ؟ هل كانت الفتاتان عاريتان كلية في الشارع العام حتى تتم متابعتهما بالإخلال بالحياء العام؟ ثم كيف تورط الأمن والنيابة العامة على حد سواء في ملف من هذا النوع دون تقدير حقيقي لما جرى؟ ودون متابعة المتورطين الحقيقيين في هذا الملف؟. وهل من المعقول أن يتورط القضاء في ملفات تحت ضغط أفراد أو جماعات ينصبون أنفسهم حماة للأخلاق والحياء.؟. أليس هذا الأمر مقدمة عملية لكي تفرض الجماعات الأصولية المتطرفة منطقها وثقافتها على المجتمع والدولة؟ إن ما جرى، وبالنظر لانعكاساته الكارثية على وضعية حقوق الإنسان ببلادنا، وعلى سمعة بلادنا، وعلى سلطة المؤسسات وهيبة الدولة ، يتطلب فتح تحقيق نزيه لتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات سيما وأن النيابة العامة تابعة لسلطة وزير العدل وهو المعروف بمواقفه المعادية للحريات العامة، (فهل سنؤسس لنيابة عامة ذات توجهات محافظة في بلادنا لأن وزيرا للعدل في بلادنا ينتمي لحزب محافظ؟) ،كما أن عقلية النيابة العامة يبدو أنها لم تستوعب بعد التوجهات الدستورية الجديدة التي تنص على قرينة البراءة، وهي التي كان من المفروض أن تتابع من تحرش بالفتاتين في سوق عمومي عوض متابعة الفتتاتين، وأن تتسلح بما يكفي من الحكمة لقياس آثار المتابعة في نازلة من هذا النوع، ثم لو كانت الفتاتان من عائلة ميسورة، أو ذات جاه ونفوذ هل كانت النيابة العامة ستأمر باعتقالهما ؟..