تأفف وتغير ملامح يعتلي ملامح نسائية ذاقت مرارة التحرش. ربما تكون الفكرة مبهة لدى البعض حين يعتقد أن الأمر يتوقف على عبارات ملطفة، تورد خد العذارى. لكن الأمر هنا تجاوز العذارى ليصل لمتزوجات ونساء متقدمات في السن، دون مراعاة لمشاعرهن، ولا كرامتهن، أو نفسياتهن المحطمة، وهن يشعرن بنوع من الرعب لعجزهن عن مواجهة متحرشين ينتهكون الخصوصية، ويجرحون المشاعر ويخدشون الحياء، باستخدام أساليب تمتد من الكلام إلى التطاول باليد. يتحلقن في جماعات صغيرة أمام البوابات الكبرى لمعامل النسيج بالمنطقة الصناعية قرب أحياء مولاي رشيد بالدار البيضاء. يتناولن وجبتهن بسرعة، مستغلين الوقت المستقطع المخصص للغذاء. نساء وفتيات من أعمار، ومناطق مختلفة. جمعتهن الظروف القاسية، التي دفعتهن للتوافق بشكل غريب على نفس الجملة، «الله يعفو علينا من هاد القهرة». تحرش خلف جدران المعامل “قهرة”، سرعان ما تتجاوز ملامحها حدود المعاناة المادية، لتطال معاناة نفسية لا تجد فرصة للخروج إلى العلن، إلا من خلال وشوشات نسائية، بينما تصر أخريات على التكتم، وانتظار فرصة للبوح بعيدا عن مسامع المتطفيلن. قصص لا تنتهي عن تحرشات لا تراعي سن الضحية، ولا وضعها الاجتماعي، داخل جدران المعامل. نصيرة مطلقة وأم لطفلين. لم يسبق لها العمل لكنها وجدت نفسها مضطرة للأمر لتعيل ابنيها بعد تهرب الزوج من كل مسؤولياته. «أي واحد كيسمع كلمة مطلقة مكيرحمكش»، تقول نصيرة التي وجدت نفسها أكثر من مرة أمام مواقف محرجة ومهينة. لا تخفي نصيرة أنها تعرضت للتحرش كثيرا قبل زواجها، لكنها لم تكن لتعر الأمر أي انتباه، لتواجهه بنوع من التجاهل. أما اليوم فمسألة التحرش تثير في نفسها الرعب، لأنها تنطوي دائما على ما هو أكبر. «اللي كيتبسل عليك وهو عارفك مطلقة، كتكون نيتو ناقصة ومابعيدش يشوفك بحال شي وحده من بنات الزنقة»، تقول نصيرة التي تعاني من أحكام مسبقة لا تبقى دفينة الصدور. لكنها تترجم من خلال كلمات وأفعال مسيئة، دفعت نصيرة إلى تغيير عملها الأول، بعد أن ضاقت ذرعا بتصرفات “الشاف” المسؤول عن مستودع الملابس الذي كانت تشتغل به. كانت البداية تقتصر على نظرات اعتبرتها مريبة ومهينة في نفس الوقت. لكنها كانت تعاني في صمت، محاولة الانزواء حتى لا تثير الانتباه. لم يعد “الشاف” يكتفي بالنظرات ليتجرأ على محادثة نصيرة في إمكانية اللقاء خارج العمل، طلب واجهته بالرفض، ليستمر الرجل في محاولاته إلى حدود اليأس. «كن كنتي مرا ديال المعقول كعما يطلقك راجلك، ونتي باغا ديري لي فيها شريفة» تقول نصيرة مسترجعة كلمات المتحرش، الذي قابلته بالصد، لكنه كان مصرا على أن لا يتراجع، لتأخذ التحرشات بعدا أكثر قسوة، بعد أن عرفت مجموعة من العبارات الجارحة والمخلة بالحياء طريقها إلى مسامعها. بل أصبح التحرش شبه جماعي باتفاق مع بعض العاملين بالمكان، بعض أن وصلت إشاعة عن علاقة تجمعها مع شخص يعمل بمصنع مجاور. وقتها لم يعد بالمقدور الاستمرار داخل جو مشحون بالتجريح والتطاول. ما يحز في نفس نصيرة، أنها لم تلقى سندا من المحيطين، الذين أحالوا التحرشات على وجود شيء مريب في سلوكها. وقتها لجأت إلى إحدى معارفها التي وفرت لها عملا بمعمل آخر. حاولت نصيرة القفز على جراحها، لكن السيناريو سيعيد نفسه، دون أن تقوى هذه المرة على المغادرة، لإكراهات ناتجة عن مرض ابنها. لا يبدو الأمر غريبا بالنسبة لكثير من العاملات رفقة نصيرة، رغم كونهن متزوجات وأمهات. «الوقت بغات هاكذا ماعندنا مانديرو، زيدون كون كان راجلي قاد بيا ما تلقاونيش هنا»، تقول مينة التي لا تتحرج من سرد قصص صادمة عن التحرش الذي تتعرض له رفقة الكثير من النساء. هي ليست ذات جمال ملفت، لكن كلامها يشير أن هناك من يتحرش فقط لينفس عن كبت ما، وهو يتفوه بكلمات جارحة، أو ياتي بحركات تكسر حواجز الخصوصية. تحكي مينة عن “الشاف ديالها في لاشين” الذي لم يكترث لحملها وهو يسمعها كلمات ما كان ليقبلها على زوجته، لكنه لم يكن يتحرج من اسماعها لزوجات غيره. بدأ الأمر بكلمات ملطفة، قبل أن تعقبها نكتة ذات حمولة جنسية. «مني وقع لي داك الشي أول مرة مشيت لفيستيير وبقيت كنبكي، ومني رجعت لدار ملقيت مانقول لراجلي .. سولني علاش عينيك حمرين، قلتليه مشاكيل في الخدما». اكتفى الرجل بتصبير زوجته، جاهلا حقيقة المشاكل التي تتحدث عنها، كان كل همه أن تعود الزوجة للعمل، لغياب البديل. كانت العودة صعبة بالنسبة لمينة، التي أحست أنها أشبه بفريسة أحكمت عليها الأبواب. ولم يكن صدها وتمنعها ليردع المتحرش الذي لم يعد يكتفي بالكلام الجارح، والنظرات لتمتد يده نحو خد مينة الناعم متساءلا عن سر الوصفة، لعل زوجته تستفيد منها. حاولت الدفاع عن كرامتها، لكن المتحرش كان يستفزها طالبا منها مغادرة المكان إن لم تستسغ سلوكه. أمر يصعب على مينة فعله، لمشاركتها في تحمل مصاريف البيت. لم يكن من بديل غير التعايش، والتخفيف من وطأة الأمر من خلال الاستسلام لدموعها. رخيصة في نظر المتحرش لا تخفي سهام انزعاجها من التحرش، لكنها بالمقابل لا تغير من مظهرها الذي يرى فيه البعض، دعوة مباشرة للتحرش. «لا دخل لبشر في اختيار ما يتوجب على فعله أو ارتداؤه، أنا حرة في فعل ما أشاء»، تقول سهام مدافعة بشراسة عما تعتبره حرية شخصية، “بمباركة” والدها. تداعب خصلات شعرها الشقراء، بأناملها النحيلة وإطلالتها التي لا تمت لمكان عملها بصلة. لم تتمكن سهام من متابعة دراستها، واختارت طوعا العمل بقطاع النسيج بعد التكوين. لم يكن عملها بدافع الحاجة للمال، لكنه رغبة في التخلص من الروتين. «كنخسر فلوسي كاملين على راسي، من غير المصروف اللي كيعطيني بابا، وفي الأخير كيجي بنادم يصدع لك راسك». التحرش في نظر سهام، “صداع راس”، مزعج لكنه لم ينجح في تضييق حيز ممارسة حريتها. لا تهم الكلمات المتحرشة التي تسمعها، لتتجاوب معها بشكل ساخر في بعض الأحيان، أو من خلال تبادل عبارات تصل لحد الملاسنات العنيفة مع بعض المتحرشين، الذين لا يكتفون بالكلمات، لتمتد أيديهم، من خلال ممارسة عنف جسدي، يتراوح ما بين إمساك الضحية من ذراعها، وأحيانا لا يتردد بعضهم في الضرب. وقد تعرضت سهام للأمرين، حين استشاط أحد المتحرشين غضبا بعد صده. لم تكن الكلمات والمغازلات من النوع الذي يمكن تحمله، ليقدم المتحرش على محاولة جذبها نحو أحد الأزقة. «قلت ليه واش تبغي شي واحد يدير لختك بحال هاكذا، قالي هانيا نوصلها ليه بدون احتساب مصاريف الشحن». جواب مغلف ببرودة أعصاب، واستهانة بآدمية سهام، التي لم تتوان بوصفه بالحيوان، ليصفها بالعاهرة الرخيصة. توصيف أشعر الشابة بالإهانة، لتكيل المتحرش بكل ما احتوته ذاكرتها من شتائم، قبل أن تجد نفسها عرضة للصفع واللكم. لم يكن هناك من مغيث على منوال الكثير من الحوادث التي تتكرر فصولها بنفس الطريقة. كل ما استطاعت آذان سهام التقاطه، وهي تحت وابل من الضربات المتوالية التي اعتقدت أنها لن تنتهي، هو عبارات زادت من قسوة الذكرى، « بعلوكات مابقاوش كيحشمو كون ما كانت كتعرفو كعما يوصل ليها». رعب مربية الأجيال بعيدا عن جدران المعامل وقصصها، تقطن مريم وحيدة، داخل غرفة تكتريها بإحدى المنازل، بضواحي البيضاء، قادمة من وجدة لتشتغل أستاذة للغة العربية بإحدى الاعداديات. يوحي شكلها على بساطة مغلفة بالوقار، ظفيرة شعرها الناعم المسدلة على كتفها، مشهد لم يعد من الممكن مصادفته إلا من خلال أفلام الأبيض والأسود. سروال أسود مع قميص رمادي، يعطيها شكلا يصعب التطاول عليه. ومع ذلك لم تسلم الأستاذة من التحرش. «أشعر باليتم والضعف كلما اعترض ذاك الشيطان طريقي»، تحبس مريم دمعها، وهي تتحدث عن قسوة الموقف، الذي يذكرها أنها يتيمة الأب، وأنها الأخت الكبرى التي يتوجب عليها الكد من أجل إعالة شقيقاتها البنات ووالدتها. الغريب في قصة مريم أنه لا تقارب بالمرة بينها وبين ذاك المتحرش الذي يشتغل كخباز في فرن تقليدي يظهر فجأة ويختفي فجأة. بدأت القصة حين كانت الأستاذة تشق نفس الطريق من أمام الفرن نحو الإعدادية. «صباح الخير أستاذة كوني غير تقارينا راه حنا على باب الله»، عبارة ثقيلة لم تعرها مريم أي انتباه. لكنها ستتكرر كثيرا على مسامعها، وستجر بعدها كلمات أكثر جرأة وتطاول. لم يعد المتحرش ذو الملابس الرثة، والرائحة النتنة يكتفي بملازمة مكانه منتظرا مرور مريم، بل تطور الأمر لملاحقتها. « أذكر المرات التي لاحقني فيها مستغلا غياب المارة، كان يسمعني كلاما جارحا يضج بحمولات جنسية»، كلمات لم تجد أستاذة العربية طريقا للرد عليها إلا من خلال دموعها، التي كانت تنهمر وهي تسير رغما عنها، جنبا إلى جنب مع المتحرش ذي الأعصاب الباردة. كان الموقف يؤثر على مريم التي أورثها يتم الأب، وكفاحها من أجل متابعة دراستها في ظروف صعبة، توترا زائدا يؤثر على جدار معدتها. لم تفلح كلماتها الملطفة في ثني الرجل عن ممارساته اليومية، ليجد لصدها ردا على طريقته، «مالك مارضياش بيا، المهم راني راجل، غير جربي وماغاداش تندمي». صمت مريم أمام الكلمات التي لم تجد في قاموسها ما يمكن أن يشكل ردا، جعل المتحرش يتمادى في تحرشاته، وهو يتعقبها لباب المنزل الذي تكتري به غرفتها. «كنت أشعر أن قلبي سيتوقف من شدة الخفقان، وأنا أنتظر ما الذي ستأول إليه الأمور أمام جرأة ذاك الشخص» تقول مريم التي لم تجد غير الصلاة والبكاء للتخفيف من معاناتها. وهي الخاضعة لمزاجية المتحرش الذي يغيب فجأة، ثم يعود دون سابق إنذار. جيم جو بارطاج غير بعيد عن مريم، وفي جو الوحدة والوحشة الذي تعانيه فتيات قاسمهن المشترك الابتعاد عن الأسرة بحثا عن لقمة العيش، تقتسم مجموعة من الفتيات ثلاثة غرف تفتقر لأبسط شروط العيش. حمام مشترك، غياب المطبخ الذي ينوب عنه ركن من الغرفة، رطوبة تسكن المكان لغياب أي منفذ للهواء، باستثناء الباب. حينما تتحدث نوال عن ما تتعرض له، تكف الباقيات عن الحديث لأنها نفس القصة، فلا داعي أن يتكرر السرد أمام تغير صوت الراوية. نوال وصديقاتها وقعن تحت رحمة متحرش بتاريخ إجرامي خط آثاره على وجهه وذراعيه المليئة بالندوب. ربما لو سمعت الأستاذة مريم قصة نوال، لشعرت أنها ليست الأسوء حالا. «مني كيوقف لينا قدام الخدمة مكيتسوق تا لشي واحد، آخر مرة صاحبتي فكوها غير شي ناس .. حلف عليها وهربت لدارهم ومبقاتش رجعات حيث هو كيهز معاه ديما موس» تقول نوال ابنة الثامنة عشر، وهي تبتلع ريقها، وكأنما الرجل يقف خلف ظهرها. لم تهرب هي كصديقتها، لكنها تستعد دائما للأسوء رفقة المتبقيات. لا يتحرج ذاك المتنمر على قطيع من فتيات لا حول لهن ولا قوة من إرسال عبارات ذات حمولة جنسية للجميع. ولا يتحرج من أن تعبث يده بأجسادهن. منهن من يمسك بشعرها، ومنهن من يمسك وجهها بين يديه وهو يتساءل عن السر الذي يدفع الفتيات لصبغ شفاههن، “سؤال فلسفي” دفع الرجل للخروج بحثا عن الحقيقة بين أجساد صغيرات، مستغلا وجودهن بعيدا عن أسرهن. وحتى الناضجات منهن لم يسلمن. فتيحة عاملة مطلقة تقول إنها تعرف الرجل جيدا. متحرش بمزاج ناري صادفته في أكثر من مكان، ما بين حي مولاي رشيد وليساسفة وبوسكورة، ولا تخفي أن الأمر وصل لحد محاولة الزج بها داخل سيارته بالقوة. تتوقف فتيحة لبرهة وكأنها تذكرت شيئا، لتتحدث عن قصة إحدى صديقاتها التي كانت رفقة زوجها حين توقفت سيارتهما أمام إشارة المرور. لم يتوان ثلاثة من الواقفين، الذين كان المتحرش الناري بينهم، من التطاول على المرأة دون مراعاة لوجود زوجها. «عينين عندك... خسارة أوكيبي»، عبارة ما كان لها إلا أن تستفز الزوج، الذي استل سلاح السب والشتم بدافع الانفعال. لكنه لم يكن يعلم أن الموقف سيتطور بطريقة مهينة، حين سيعمد أحدهم إلى فتح باب السيارة وجذب الزوجة للخارج. «متكونش كرشك كبيرة.. واش مكتسمعش الناس كيقولو جيم جو بارطاج». لم تختطف الزوجة، ولم تتعرض لأذى مادي، لكن الآلام النفسية كانت كبيرة، وتطورت لمشاكل عائلية، لم يستطع الزوج خلالها أن يوازن بين مساندة زوجته أو مواجهة الإهانة التي لحقته. صيدلية الغرام إهانات لا تتوقف عن التنقل ما بين المتزوجات والعازبات. وفي أماكن عمل مختلفة. أمل التي اكتفت بالحصول على شهادة الباكالوريا قررت منذ سنوات الخروج لمعترك الحياة. أول ما خطر في بالها هو العمل داخل صيدلية. طالما حلمت بأن تتابع دراستها في هذا المجال، لكن الدراسة توقفت دون أن يتوقف الحلم. حينما تتنقل أمل اليوم داخل الصيدلية وهي الآمرة الناهية، تتذكر أن الأمر لم يحصل إلا بعد معاناة. حين قدمت لأول مرة قرر صاحب الصيدلية أن يمنحها فرصة لتتدرب على يد الموظف “المحنك”. الذي اكتشفت أنه يحاول امتلاك صلاحيات تفوق صلاحيات رب العمل نفسه. «بدأ الأمر بمسك يدي أثناء ترتيب الأدوية، ليبدأ الحديث عن لون أحمر الشفاه الذي يتوجب علي وضعه ليذكرني في كل مرة أنني باقية في العمل مادام هو راض، لأن الكلمة الأولى والأخيرة له»، هكذا بدأت المساومات الباحثة عن المقابل. لا تنكر أمل أنها كانت تعرف القصد، لكنها كانت تصد المحاولات، إلى أن رأت أن الأمر أخذ في التطور بطريقة لم يعد الصبر يغني معها. «آشنو رأيك نسدو علينا الصيدلية في الوقيتة ديال الغذا بلاما تعذبي وتبقاي تمشي حتي للدار». دعوة لم تكن أمل لتستجيب لها، وهي التي لا تأمن على نفسها مع الرجل حتى في الأبواب المفتوحة، فما بالك بالأبواب الموصدة. صد لم يتحمله الموظف الذي بالغ في تجريح أمل، «مالك دافعه كبير، ياكما طامعه في مول الشي». لم تجد أمل الحل إلا بيد رب العمل، الذي اشتكت له من التحرشات، لتفاجأ بأن الرجل على دراية تامة بالقصة، وأنها ليست المتدربة الأولى التي تشتكي من الأمر، لكن الحاجة إلى الموظف كانت ماسة، قبل أن يتم تعويضه بآخر. منصب لم يغني من التحرش وفي العمل دائما، لكن هذه المرة داخل البنايات العملاقة، لم تنجو الغالية صاحبة التكوين الأكاديمي العالي، من ممارسات لا تفرق بينها وبين أخريات لا يمتلكن أدني تكوين. شابة أنيقة، بملابس شبه كلاسيكية تليق وعملها الإستشاري داخل إحدى الشركات الكبرى. الأهم من ذلك ذكاؤها المتوقد الذي يدفع رؤسائها إلى ترشيحها نحو أي دورة تدريبية خارج المغرب. لكن الغالية لا تبدي ارتياحا تاما للمستقبل، «لحد الساعة الأمور مزيانة ولكن منبعد معرفتش». الغالية لم تعد تبدي تفاؤلا تاما، بعد تخليها عن عملها الأول نتيجة تحرشات رئيسها الأجنبي. بدأت الأمور عادية حين تم اختيار الغالية لكفائتها لا لشيء آخر كما تقول، لكن رئيسها المعجب بتميزها في العمل، سيتدخل في اختيار أزيائها. وسيتطور الأمر من مجرد مصافحة، لتجد يد الرجل تمتد إلى خدها دون مقدمات. بعدها ستكون دعوة عشاء قيل إنها دعوة عمل، لكنها تحولت إلى جلسة خاصة. أمور لم تعد تتقبلها الغالية، خصوصا مع ارتفاع وتيرة التعليقات حول تضاريس جسدها. كانت نصيحة رئيسها أن الأمور ستصبح أكثر سلاسة، لو خففت من حدة حذرها من خلال تناول بعض المشروبات الروحية، التي تعج بها ثلاجة المكتب. صبيحة يوم ما قررت الغالية أن تبقى في سريرها، غير مكترثة لتبعات القرار على المستوى المادي.. قررت البحث عن عمل آخر بحثا عن راحتها النفسية. تحرش من هنا وهناك البحث عن الراحة، هو ما ينشده الجميع على طول شاطئ عين الذياب، وفي بعض الحدائق العمومية، التي تحج إليها النساء بطريقة فردية أو جماعية. منهن من تتمشى ومنهن من تهرول. لكن الأعين المتلصصة لا تكف عن التقاط المشاهد، وتوجيه العبارات، التي تغير ملامح النساء نحو الامتعاض. «باقة شاده فراسك الواليدة»، عبارة لا يتردد مجموعة من المراهقين أو الشباب، في ترديدها على مسامع نساء، لم يعد عمرهن يشكل ذلك الجدار الواقي من التطاول. «كاينين شي وحدين ماكيفرقوش ما بين البنت ولمزوجة ولا المرا الكبيرة» تقول نجاة التي تبتعد عن التعميم، لكنها في نفس الوقت، لا تخفي قلقها من أن الأمور تغيرت، مما سمح بخروج ظواهر غريبة للعلن. تحاول نجاة جمع شتات فكرها، لترى أن بعض النساء المتصابيات هن اللواتي يشجعن بعض المتحرشين على التطاول. قبل أن تتراجع عن رأيها «وماعرفتش الواحد هو اللي يقول الله يسترنا ويستر بنياتنا وصافي». “بنياتنا” بدورهن، هن المادة الدسمة لكل أشكال التحرشات. زيارة بسيطة لأي مؤسسة تعليمية، كفيلة بملاحظة بعض الوافدين بسيارات، ودراجات نارية رياضية. هي رحلة البحث عن “التيتيزات”. قد تتطور الزيارات لأكثر من تحرش لتصبح رحلة صيد ضحايا لأغراض أخرى. أمام المؤسسات كانت ردود الأفعال مختلفة. كلمات من هنا وهناك، توصيفات تحيل على غزل يرتبط بتشبيه الفتاة بنجمة ما، في إحالة على “اللوك” الذي اختارته الفتاة. هيفاء، شاكيرا، بيونسي، ريحانا... قبل أن يتطور الموقف إلى ملاحقات بالسيارات، أو الدراجات. لينتهي بتجاوب المتحرش بها، أو بتعنتها الذي لا يشكل صدا لبعض المستميتين لآخر لحظة. وحين لا تسعف الكلمات، لا مهرب من شد الفتاة من ذراعها، أو محاولة تثبيتها في إحدى الزوايا، مما يشكل حرجا كبيرا لبعض الفتيات، وهن يدرن رؤوسهن بلا وجهة، أمام تطفل عيون المارة الذين لا يبدون أي رد فعل سوى لمراقبة الصامتة. سكينة بنزين