الجزائر .. دولة غنية وشعب فقير"، ثنائية تعكس تناقضا بين حكومة متخمة خزائنها بما يزيد على 200 مليار دولار (احتياطي النقد الأجنبي) وفئات من الشعب تعاني تدهورا مستمرا في القدرة الشرائية وصعوبات معيشية متعددة لم تفلح سياسات الدعم الحكومي، خصوصا في مجال الإسكان الاجتماعي، في معالجتها. المنطقة الصناعية في وادي سمار، أحد أحياء القصدير (الصفيح) المشهورة والقديمة شرقي العاصمة الجزائرية، تعتبر أحد أبرز مظاهر تناقض الدولة الغنية التي لا تقدم توزيعا عادلا للدخل. أنشئ الحي في ثمانينيات القرن الماضي ومعظم بيوته من الصفيح، تتجلى كل مظاهر البؤس في الحي الذي لم يصله ريع الغاز والنفط الذي تجود به صحراء الجزائر. في مدخل الحي التقينا رفيق وزوجته سهام، بينما كانا عائدين من ورشة خاصة للخياطة يعملان فيها، وبرفقتهما ولداهما الصغيران سامي وأمينة، اللذان لم يدخلا المدرسة بعد، ترددا في الحديث معنا بادئ الأمر، لكنهما قبلا على مضض ولكن رفضا تصويرهما، وبعد تنهيدة طويلة أزاح من خلالها رفيق القيود عن لسانه، واسترسل بالقول:"عمَّ أخبرك. أحوالنا؟ أنت ترى كل شيء بعينيك". "جئت إلى الحي مع والدي قبل نحو 25 سنة، ورأيت فيه الويلات، لأنني لم أتمكن من مواصلة دراستي بسبب بُعد المدرسة عن منزلنا، لأجد نفسي مع كثير من أقراني نذهب صباحا إلى مقلب نفايات وادي سمار، علّنا نعثر على بعض الأشياء ذات القيمة من بين الفضلات لنحاول بيعها لمحلات الخردة". يقول رفيق الذي لا يتعدى دخله هو وزوجته ثلاثين ألف دينار جزائري (378 دولارا أميركيا) متابعا "نحاول أن نتقشّف حتى لا نلجأ إلى الاستدانة قبل نهاية الشهر، وضحينا حتى بالضروريات مثل جهاز التدفئة في فصل الشتاء الذي يكون شديد البرودة، بالجزائر خصوصاً في منازلنا القصديرية". "عندما أتذكر أنني مواطنة فقيرة في بلد غني من أكبر مصدري الغاز يزداد حزني كغالبية الجزائريين" تقول سهام زوجة رفيق التي قرأت تصريحا حكوميا في الصحف أن دخل المواطن الجزائري لعام 2012، بلغ 5542 دولارا أميركيا أي ما يقارب 440 ألف دينار جزائري، لكن "لم يصلها دولار واحد منها" على حد قولها. ثنائية "الدولة الغنية والشعب الفقير"، يعززها غياب إحصاءات وأرقام دقيقة عن نسب الفقراء في الجزائر، وإن وجدت فهي متناقضة، فالحكومة تؤكد على لسان وزير الفلاحة والتنمية الريفية عبد الوهاب نوري، أنها تمكنت من القضاء على الفقر في الأعوام الخمسة الأخيرة، محققة الهدف الأول من أهداف الألفية الثالثة للأمم المتحدة، في الوقت الذي قال سلفه الوزير جمال ولد عباس عام 2010 إن نسبة الفقر في الجزائر تراجعت من 12% إلى 5% بين عامي 1999 و2010، وعلى العكس من كل هذا، تقول تقارير منظمات حقوقية محلية، أن نسبة فقراء الجزائر تتراوح بين 20 إلى 25% من إجمالي سكان الجزائر، الذين يزيد عددهم على 38 مليون نسمة. ولكن ما يزيد من تضارب المعطيات والبيانات غياب إطار مرجعي لتعريف الفقر في الجزائر. في المقابل، فإن آخر الأرقام المتاحة، تُظهر بما لا يدع مجالا للشك درجة الغنى الذي باتت توصف به الدولة الجزائرية، فقد بلغ احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي الجزائري 206.4 مليار دولار في نهاية 2013، بينما ارتفع فائض صندوق ضبط الواردات — أنشأه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عام 2000، لتحويل فائض عائدات البترول التي تزيد على سعر 37 دولارا للبرميل — إلى 91 مليار دولار في الفترة نفسها، كما توجد توقعات ببلوغه 95 مليار دولار في نهاية السنة الحالية 2014. التوزيع الظالم للثروة يرى الدكتور كمال رزيق عميد كلية العلوم الاقتصادية بجامعة سعد دحلب بالبليدة، أن نسبة الفقراء في الجزائر قليلة، ويقول "لم نسمع حتى الآن عن أي جزائري مات بسبب الفقر، لكن هذا لا يعني عدم وجود فقراء في الجزائر، وإنما عددهم قليل، مقابل طبقة واسعة من السكان المحتاجين والمعوزين، الذين لا يسمح دخلهم بتلبية متطلبات الحياة وعيش حياة كريمة، جراء ضعف القدرة الشرائية بسبب التضخم المرتفع". وأوضح رزيق أن "ما يحدث في الجزائر هو توزيع غير عادل للثروة، جعل فئة كبيرة جدا من الموظفين والتي تنتمي إلى الطبقة الوسطى تنتقل إلى فئة المحتاجين أو المعوزين، ومنهم من نزل تحت عتبة الفقر على الرغم من قلة عددهم". ودعا الحكومة إلى ضرورة التحلي بالشجاعة والكفّ عن سياسة دعم السلع التي لا تذهب لمستحقيها الحقيقيين، فضلا عن وجوب وضع برامج أكثر فاعلية للقضاء على مظاهر العوز والحاجة التي تعانيها فئة واسعة من الشعب. أما الدكتور أحمد بركات، أستاذ بكلية العلوم الاقتصادية لجامعة الجزائر- 3، فله رأي آخر يخالف تماما رأي الدكتور رزيق، إذ يعتبر أن نسبة الفقراء في الجزائر كبيرة جدا، لأن ظاهرة الفقر تقاس بمستوى المعيشة التي انحدرت إلى مستوى الحصول على قوت اليوم بشق النفس، وباتت تمس فئات عريضة من الشعب الجزائري. "مظاهر الفقر تتجلى في لجوء العديد من الناس إلى الأكل من المزابل، والانتشار الرهيب لمتعاطي المخدرات، خصوصا في المناطق الشعبية الآهلة بالسكان، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الأطفال الباعة على أرصفة الطرقات، الذين هجروا مقاعد الدراسة بسبب عدم قدرة أهاليهم على إعالتهم رغم مجانية التعليم الذي تكفله الدولة، وبالتالي تحوّلوا إلى باعة لرغيف الخبز والبيض المسلوق، بل إنه في بعض المناطق الجزائرية عاد الأطفال إلى امتهان مسح الأحذية، وهي الظاهرة التي اختفت مباشرة بعد استقلال البلاد لتعود مجددا للبروز مع مطلع الألفية الثالثة وتتزامن مع غنى غير مسبوق للجزائر، لم تعرفه منذ مطلع القرن التاسع عشر، أي قبل احتلال فرنسا للجزائر عام 1830′′. يضيف الدكتور بركات ل"العربي الجديد" أن كل العمال والموظفين الذين يقل دخلهم الشهري عن ثلاثين ألف دينار جزائري، أي نحو (378 دولارا أميركيا)، هم فقراء، ومن هنا يمكن قياس نسبة الفقر في الجزائر التي تتعدى عشرات الملايين، إذا علمنا أن ما يزيد على مليوني موظف لا تتجاوز مداخيلهم الشهرية ثلاثين ألف دينار جزائري، وأكثرهم يعيلون عائلات من خمسة أفراد، من دون الحديث عن النسبة الحقيقية للبطالة التي تتجاوز بكثير الأرقام الرسمية المعلنة والمقدرة بتسعة في المائة". من هذا المنطلق يؤكد بركات، أنه أجرى مع بعض زملائه الباحثين، دراسة ميدانية عن الواقع المعيشي للجزائريين، خلصت إلى نتائج رهيبة جدا، منها بلوغ نسبة الفقراء 63.25 في المائة، بالإضافة إلى أن ما نسبته 73.72 في المائة أصبحوا غير قادرين على العيش بأجورهم الشهرية التي يتقاضونها بسبب تدهور قدرتهم الشرائية، كما أن هناك نسبة تقدر ب 13.75 في المائة فكروا في الانتحار بسبب عدم قدرتهم على توفير مستلزمات الحياة الضرورية لأسرهم. بركات بدا متشائما بمستقبل أكثر صعوبة على الجزائريين، في ظل عدم وجود نشاط اقتصادي إنتاجي واعتماد مشاريع اقتصادية غير إنتاجية. المحرومون من ريع النفط و الغاز كلام الدكتور بركات، تعززه حالة رشيد –مواطن جزائري في بداية العقد الرابع من العمر– متزوج وأب لطفلين، يعمل حارسا في أحد المرافق العمومية، ويقطن مع أسرته الكبيرة في بيت قديم بأحد الأحياء الشعبية الموروثة عن العهد الاستعماري بمقطع الأزرق بحمام ملوان التابعة لبلدية البليدة والتي تقع جنوب العاصمة الجزائر وتبعد عنها 40 كيلومترا. "كيف لي أن أعيل عائلتي وأعيش حياة كريمة؟ ودخلي الشهري لا يتجاوز 21 ألف دينار جزائري (264 دولارا أميركيا) وهو لا يكفيني حتى لتوفير أهم المستلزمات من حليب وخبز وبعض الخضار والبقول الجافة التي نسد بها الرمق"، يقول رشيد بألم "التفكير بامتلاك سيارة أو الحصول على بيت مستقل لعائلتي الصغيرة يبقى من الأحلام التي أتألم كثيرا عندما تراودني". حال سليم، ليس بأفضل من ابن خالته رشيد، الذي يقطن في الحي نفسه- متزوج وله طفلان أيضا– وعلى الرغم من أنه خريج جامعي ويحمل شهادة في الهندسة المدنية، إلا أنه يعاني من البطالة، ولم يحصل على عمل مستقر بعد، رغم دخوله العقد الرابع من العمر. "اشتغلت في المصلحة التقنية لبلدية حمام ملوان عامين في إطار ما يعرف في الجزائر ببرنامج عقود ما قبل التشغيل، لكن تم تسريحي من المصلحة، الآن أساعد والدي المتقاعد بزراعة أرضه الجبلية الوعرة"، يضيف رشيد متابعا "عملت مع شركة إسبانية للمنشآت الكبرى، تولت إنجاز قسم من الطريق السيار المزدوج شرق- غرب الجزائر، لكن بعد الانتهاء من إنجاز المشروع ومغادرة الشركة الإسبانية الجزائر وجدت نفسي عاطلا مجددا، ولولا أرض والدي لما وجدت من يعيلني وعائلتي الصغيرة". سليم تساءل: "أين ريع النفط والغاز؟ ولماذا لم توفر الحكومة لنا عملا يتناسب مع تخصصاتنا، فرغم أني مهندس، فليس أمامي سوى زراعة الخضر الفصلية، وبيعها لتوفير الحليب لأبنائي الصغار". تقاسم المعاناة هموم الجزائريين متجانسة، رغم اختلاف الأماكن وتغيّر الوجوه والأسماء والأعمار، فما يعانيه رشيد وسليم في منطقتهم الريفية، لا يختلف كثيرا عما وجدنا عليه حال خالد، الذي صادفناه بحي باب الوادي العتيق في وسط العاصمة. خالد في العقد الخامس من العمر وأب لطفل وثلاث بنات، كان يكنس في الشّارع الرئيس، فسألناه فيما إن كان يتقاضى وزملاؤه من عمال النّظافة أجرا محترما، فهزَّ رأسه متأسفاً، وهو يُخبرنا أنّه يغفو ويصحو على صور متاعب الفقر ذاتها، وعلى أحلام مجمّدة بغلاء المعيشة وصعوبة الحياة، وأن راتبه الشهري المقدر ب18 ألف دينار حوالى ( 226 دولارا أميركيا) بالكاد يغطي مصروف العائلة لأسبوعين، ولولا زوجته التي تعينه من عائدات صنعها لبعض الحلويات التقليدية التي يبيعها ابنهم لأحد المحلات لاضطر إلى التسوّل. وعن مسكنه، قال "فضّلت الانتقال بعيدا عن أهلي، بعدما ضاق بي الحال مع أبنائي الأربعة في غرفة واحدة ببيت الأهل، لذلك لجأت إلى شراء بيت قصديري في أحد أحياء الصفيح في تريولي في العاصمة الجزائر، حيث أنتظر أنا وغيري الفرج من الله". حسين بوجمعة / العربي الجديد