إذا كان الموسم الدراسي الحالي 2010 / 2011 قد تميز بتنزيل مشروع تأمين الزمن المدرسي والزمن الإداري على أرض الواقع بالعلاقة مع منظومة مشاريع البرنامج الاستعجالي بقطاع التربية الوطنية ، فإنه قد تميز أيضا بكونه الموسم الذي عرف ربما أكبر قدر من الزمن المدرسي الضائع حيث ناهزت نسبته ، على المستوى الوطني ، 07 في المائة من الزمن الإجمالي السنوي المقرر، مما أدى تعديل مواعيد إجراء الامتحانات المدرسية لإتاحة أسبوع يمكن استثماره من أجل الاستدراك . غير أن التقويم الموضوعي لمدى نجاعة وفاعلية وأثر مشروع تأمين الزمن المدرسي على التغيبات يقتضي التمييز بين نوعين من الزمن المدرسي الضائع ( أو بالأحرى المرشح لأن يكون ضائعا في حالة عدم إعمال إجراءات المشروع وبخاصة الإجراء المتعلق بتعويض زمن التغيب ) الأول هو الناتج عن التغيب الفردي أو المفرد، المبرر أو غير المبرر ، والثاني ناتج عن سلوك جماعي للفاعلين التربويين بداعي الإضرابات والاحتجاجات القطاعية والفئوية المختلفة . كما يقتضي هذا التقويم الموضوعي أيضا بيان أن مشروع تأمين الزمن المدرسي للتلميذات والتلاميذ لا ينتصب ضد الحق في الترخيص بالتغيب كما هو منظم بالقانون بقدر ما يرنو إلى التوفيق بين حقين متعالقين في إطار معادلة صعبة ، ربما ، هما الحق في رخصة التغيب المشروع والمبرر بالنسبة للمدرس والحق في الاستفادة من الزمن المدرسي المقرر كاملا غير منقوص بالنسبة للمتعلم . ولعل هذه الصعوبة المستشعرة هي ما جعل هذا المشروع يطرح نفسه بمداخل ومقاربات متعددة ومتكاملة . يعتبر إرساء آليات الشفافية أحد المداخل الخمسة المكونة لمشروع تأمين الزمن المدرسي وزمن التعلم إلى جانب آليات ضبط وتسجيل التغيبات والمعالجة البيداغوجية والمعالجة الإدارية ثم الأجرأة المعلوماتية . ومن بين الإجراءات التدبيرية المتضمنة في هذا المدخل ، ذلك المتعلق بسبورة الشفافية التي يفترض أن تعلق بمكان استراتيجي داخل المؤسسة متضمنة على الخصوص : لوائح الأطر الإدارية والتربوية العاملة بالمؤسسة ، ساعات العمل وجداول الحصص الدراسية ، المقرر السنوي الخاص بتنظيم السنة الدراسية ، لوائح المستفيدين من التراخيص الممنوحة ، أسماء المتغيبين عن العمل ثم الغلاف الزمني السنوي المطلوب تأمينه للتلميذات والتلاميذ . كما يتضمن مدخل الشفافية أيضا إجراء آخر يتعلق باعتماد تشوير وترقيم كفيل بالمساعدة على الاهتداء بسهولة إلى مرافق المؤسسة ومكاتبها وأجنحتها المختلفة مع حصر العاملين والمستخدمين المكلفين بكل مرفق أو جناح أو مكتب . لا بد من التأكيد في البداية أن مدخل الشفافية في مشروع تأمين الزمن المدرسي هو المدخل المستهدف في هذه الملامسة الأولية للموضوع وذلك ليس فقط لأنه المدخل الأول في المشروع بل وأيضا لأنه الأكثر قابلية للملاحظة والتتبع والتحقق من خلال المعاينة الميدانية . لكن مع ذلك لا بد من القول أيضا إن الإجابة الشافية عن هذا السؤال المركزي تفترض مراكمة المعطيات الكافية حول أنماط تنزيل هذا المشروع وتنفيذه على أرض الواقع بالمؤسسات التعليمية من طرف فرق المواكبة والتتبع الميداني التي نص المشروع على تشكيلها، مركزيا وجهويا وإقليميا ، كآليات لتأطير المشروع أولا ثم لتجميع وتحليل المعطيات . وإذا كنا لا ننفي تطبيق بعض الإجراءات المرتبطة بمدخل الشفافية من طرف بعض الفاعلين ، مديرين وغيرهم ، بالمؤسسات التعليمية والنيابات والأكاديميات ، قبل بدء الاشتغال بهذا المشروع بمقتضى المذكرة رقم 154 بتاريخ 06 شتنبر 2010 ، فإن من الضروري الإقرار بالمقابل ، برأينا على الأقل ، أنه كان لزاما على الداخل إلى بعض المؤسسات التعليمية استعمال السؤال إن هو أراد الوصول إلى مرفق أو مكتب أو جناح محدد ، و يجد نفسه في نفس الوضعية إذا أراد معرفة عدد العاملين إجمالا بالمؤسسة أو العاملين بالفعل و/أو المتغيبين ، لموانع وأسباب مختلفة ، في وقت محدد . يمكن القول الآن ، بعد الشروع في تنفيذ عمليات وإجراءات هذا المشروع ، إن الأمور أصبحت أكثر وضوحا وشفافية وباتت سبورة الشفافية مصدرا هاما للمعلومات حول المؤسسة يغني عن السؤال . لكن هل ثمة قرائن أولية ، على الأقل ، تدل على مساهمة الإجراءات المقترحة في هذا المدخل في ترتيب أثر يذكر على تأمين الزمن المدرسي للمتعلمات والمتعلمين ؟ وما قيمة وطبيعة هذا الأثر ؟ يتبين من عملية المواكبة والتتبع لتنفيذ هذا المشروع وبصفة خاصة ما يتعلق منه بمدخل الشفافية أن تنفيذ الإجراء المتعلق بسبورة الشفافية لا يعدم بعض الآثار الإيجابية على الهدف المنشود . يتجلى ذلك في تقلص جزئي لزمن التغيبات المسجلة مقارنة مع ما كان عليه الحال قبل تنفيذ الإجراء ، مع العلم أن مفهوم التغيب هنا لا يستغرق كل التغيبات وإنما يقتصر على تلك المعتبرة مشروعة أو قانونية أو فردية . ويعود سبب التقلص ، بنظرنا ، لما يرتبه إشهار الأسماء المتغيبة وأسباب التغيب من أثر سيكولوجي إيجابي يسير في اتجاه مقاومة ترجيح كفة التغيب إلا في الحالات القصوى طبعا . وتتعزز هذه المقاومة السيكولوجية بالدرجة الأولى للميل نحو التغيب ، بفعل الإشهار/ الإشهاد المذكور ، بعامل آخر من نفس الطبيعة السيكولوجية يتحدد في الإيحاءات التي يخلفها فعل الأجرأة المعلوماتية للعمليات المرتبطة بضبط التغيبات عن طريق ضبط الاتصال من أجل الإخبار مباشرة بين إدارة المؤسسة والمصالح المركزية للوزارة. ومما لا شك فيه أن هذا الإيحاء من شأنه أن يؤدي، حين حصوله فعلا، إلى تغذية الإقتناع ، لدى الفاعلين المستهدفين ، بتآكل هامش التصرف (Marge de manoeuvre ) المتاح لرئيس الإدارة في إطار ما يسمى بالبنية الموازية ( L'informel ) . يؤدي هذا الإعتقاد في النهاية إلى تخفيف الضغط على رئيس الإدارة التربوية الذي كان ينتج التسامح مع بعض التغيبات بحجة المرونة في التعامل مع القوانين ومراعاة العلاقات الإنسانية . على أن هذا التحليل لا يقفز طبعا على عناصر أخرى أساسية في التفسير مثل الصرامة والحزم في إعمال التشريع والمراقبة والمفاجأة اللتين تغذيهما آليات المواكبة والتتبع ممثلة في الفرق الإقليمية والجهوية والمركزية . لكن إذا كانت الملاحظة تدل ، وإن على نحو جزئي لحد الآن ، على نوع من التوجه نحو تقلص الزمن المدرسي الضائع بسبب التغيبات ، وهو ما يصب في تحقق تأمينه كهدف رئيسي بفعل إعمال مدخل الشفافية إلى جانب مداخل المعالجة الإدارية والتربوية والأجرأة المعلوماتية ، فإن زمن التعلم ، ونعني هنا زمن الدرس ، يظل في حاجة دائمة ومستمرة إلى مزيد من التأمين لحمايته من تسربات جانبية محتملة مما يفرض تضافر جهود الثلاثي التربوي المتكون من المدرس والتلاميذ والمفتش . بيد أن المعضلة الكبرى التي تحتاج إلى إعمال الصرامة والجدية اللازمتين من طرف كل المعنيين هي المتعلقة بتفعيل المعالجة البيداغوجية وبخاصة ما يتصل بالاحتفاظ بالتلاميذ في حالة تغيب المدرسين وتعويض الحصص الدراسية الضائعة ، ذلك لأن المعالجة البيداغوجية تفترض الابتكار والمبادرة من أجل تجاوز وضعية الخصاص الحالية في بنيات الاستقبال والموارد البشرية . أما المعالجة الإدارية فإن الأمر فيها لا يتطلب اختراع العجلة من جديد ، كما يقال ، فالمساطر والإجراءات موجودة وقائمة يكفي إعمالها وتطبيقها . (*) مفتش مادة الفلسفة بنيابة الناظور الثورة وأزمنتها بقلم: سمير العيطة(*) «عودوا إلى العمل، كفى فوضى». هكذا تصدح عالياً أصوات في تونس ومصر بعد رحيل السلطة السابقة. إنها ردّة فعل على احتجاجات تقوم في مناطق مختلفة من البلاد مطالبة بتغيير أنماط الإدارة (وشخصيّاتها) أو على إضرابات تقوم في المعامل والشركات للتفاوض على حقوق أو في مزارع لاستعادة أملاك مغتصبة. بل غالباً ما تترافق هذه الدعوات للعودة إلى الحياة الطبيعيّة مع خطابات طنّانة أو احتفاليات تمجّد بالثورة، لكنّها تصرّ وتؤكّد أن الثورة انتهت! هذا كأنّ الثورة هي لحظة. وكأنّها تكمن فقط برحيل الرئيس وحاشيته. وكأنّه يمكن بناء مستقبل جديد مع استمرار نوعية السياسات الماضية، وبدعوة المستثمرين الأجانب من خلال منح المزيد من الإعفاءات وتحرير القيود، ومع مجرد تغيير في الخطاب وصلافة كيل المديح لل«ثورة». وكأنّ نداء «عودوا إلى العمل» يحل كل المشكل، وله معنى عندما يكون معظم الشغل هشّاً وغير نظامي. إذا آمنّا أنّ ما يحصل هو نهضة جديدة، ذات جذور عميقة. فإنّ الأمر بالطبع ليس لحظة بل زمناً، بل حتى أزمنة اجتماعية واقتصادية وسياسية تندفع وتتدافع كلّها، ولن تتلاقى في توازن جديد إلا بعد أمد. الزمن الاجتماعي هو الأوّل. ومن الطبيعي أن يتحرّر اليوم حقّ الإضراب والاحتجاج من قيوده. والمفترض هنا ليس قمعه، بل أن تتعلّم الإدارات المعنية كيفية التفاوض وكيفية التعامل مع الناس وحقوقهم، ضمن إطار هذه الحرية. وهذا فنّ بحدّ ذاته، لا يشبه أبداً التحالف بين أرباب العمل والسلطة الذي كان قائماً لوأد مثل هذه التحرّكات. وهو فنّ يؤسس لعلاقة انتماء مختلفة بين العمال ومؤسستهم. وفي النهاية، تدلّ دروس التجربة الأوروبية أن الاحتجاج والتفاوض لم يؤديا إلى هلاك الثورة الصناعية، بل شكلا جزءاً من سيرورتها. كذلك لا يمكن تصوّر أن تركن الحركة في المناطق التي أهملت وتركت محيط «طرفيّ» لعواصم مزدهرة. إنها ستستمرّ مطالبة ببنى تحتية ومشاريع تشغيل وتسهيل وصلها مع كافة مناطق البلاد وطرد الولاة والمجالس المحلية الذين تعيّنهم العاصمة، أكانت هذه العاصمة محكومة من «سلطة فوق الدولة» [1] أم من مجلس عسكري أم من حكومة انتقالية. وهذا يتطلّب هذا مبادرات سريعة لأنّ زمن التنفيذ سيكون أيضاً له أمده. هكذا تدلّ النهضة الجديدة على انطلاق الزمن الاجتماعي في البلدان العربية، الذي سيتطلّب وقتاً كي يرسو على توازنات يجب ابتكارها، ويسميها البعض «عقد اجتماعي جديد». هذا لا يعني أنّ الزمن الاقتصادي قد توقّف. على العكس، تشير المعطيات الأخيرة في تونس أنّ النموّ قد عاد في الربع الثاني من 2011، وأن الصادرات الصناعية قد ازدادت عن معدّلاتها حتى مقارنة مع ما قبل الثورة، وأن السياسات الاقتصادية «التوافقية» في الزمن الانتقالي ربّما أقلّ ارتجالاً وتعسّفاً من تلك في مرحلة الاستقرار والسلطة الواحدة. إلاّ أنّ هذا الزمن الاقتصادي قد شهد منعطفاً، إذ تحرّر فعلاً من الخوّات، لكنّه يحتاج إلى إعادة صياغة نموذج لا يقوم فقط على موارد ريعية. وهذا أيضاً يتطلّب وقتاً. وكلّ الخطابات من شاكلة «عودوا إلى العمل» تأخذ هنا طابع الثورة المضادة: أي العودة إلى المنظومة السابقة مع أشخاص مختلفين. هناك أيضاً زمن سياسي للثورات العربية، وهو ربّما أعقدها. فثورتا تونس ومصر لم يكن لهما قيادة، ولا حزب سياسي رائد، ولكن هذا لا يعني أن ليس لهما أفكاراً وثوابت [2]. إنّهما حراك عام، تخطّى في لحظته الأولى كل أحزاب «المعارضة»، وما يزال حتماً يتخطّاها في زمن المجتمع. إلاّ أنّ مآل الزمن السياسي هو الوصول إلى نظام سياسي جديد، وهذا بمطلق الأحوال لن يكون سهلاً، فالفرديّة تلعب فيه دوراً كبيراً، ولا بدّ من الوقت اللازم لتكوين القدرات. في تونس، تأسّس الزمن السياسي على قاعدة قانونية تذهب إلى إعادة صياغة الدستور والتعددية الحزبية، وستكون عوامل استقرار النظام السياسي في طيّات تفاصيل هذا الدستور. سيرورة طويلة، بالتالي لا معنى لانتخابات فورية، ينادي بها البعض، قبل الوصول إليها. الصيغة تختلف في مصر، حيث يطمح المجلس العسكري إلى صياغة عوامل الاستقرار الجديدة، وتأطير الحياة السياسية، ممّا يفرض على الحراك الشعبي معركة يومية طويلة الأمد. الربيع العربي له إذاً أزمانه، كلّ له وتيرته. وهذا ينطبق على جميع البلدان، من اليمن إلى المغرب إلى سورية. البعض مستعجل، ويريد مشاهدة اللحظة السياسية (أي سقوط السلطة) تتحقّق فوراً وبأي ثمن، حتّى لو تطلّب ذلك تدخلاً عسكرياً خارجياً. ألم يتعلّم هذا البعض من التجربة اللبنانية والليبية شيئاً، من أن إدخال «الذئب» إلى غابتك السياسية لا يأتي إلا بالخراب وفقدان الاستقلال؟ ألهذا يدفع الناس أرواحهم ثمناً؟ لا يهمّ أن تأتي اللحظة السياسية بعد شهر أو ستة أشهر أو سنة، إذ أنّ المهم هو الزمن الاجتماعي، واستفاقة الشعوب العربية على حريتها وكرامتها، التي لن تحصل عليها إلا بنضالاتها وبتضحياتها هي. الزمن الاجتماعي له الأولوية، وهو مصدر السياسة (يقولون في الدساتير مصدر الشرعية)، وهو بحسّه الذي يحفظ الأوطان، وليس الاستعجال وألاعيب السياسيين. علي بلجراف اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L'Harmattan, 2011. [1] «إسقاط السلطة لتحرير الدولة»، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، إبريل 2011، [2] محاضرة غازي الغرايري، الناطق السابق باسم الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي، في ندوة «التحديات الاجتماعية والاقتصادية للثورة التونسية»، تونس 17-18/6/2011