في الوقت ذاته الذي ينشغل ساسة العاصمة العلمية فاس بصراعاتهم التافهة، تسقط المنازل المتآكلة على رؤوس الفقراء دون أن يجد ساسة المدينة أي إشكال في المسألة. شباط يسب المغرب كله «من الطرف حتى للطرف»، ويستعد بعد أن أعطاه عباس الضوء الأخضر لكي يهجم على البام. لحسن الداودي زعيم بيجيديي فاس لايخرج عن صمته إلا لكي يسب شباط، أو خلال الحملات الانتخابية في العاصمة العلمية. اللبار من الأصالة والمعاصرة رآه الناس في البرلمان يسب شباط ثم قرؤوا له حوارا كله شتم وسباب في «الجريدة الأولى». وماذا بعد؟ لاشيء. مدينة كانت تاريخية في يوم من الأيام, أصبحت اليوم مزبلة حقيقية بغض النظر عن «زواق برة»، ولم تعد تكتفي باجترار وقتها في تذكر الماضي والبكاء عليه، بل أصبحت تمر إلى قتل أبنائها بعد أن ظلت لعقود تهددهم بالانهيار على رؤوسهم، وابتدع المسؤولون المتعاقبون عليها بدعة وضع ركائز عملاقة ومشينة للغاية لكي تؤجل قدر الله، الذي يبدو أنه حل بالعاصمة العلمية، ولن يتركها أبدا. يوم الأحد الفارط اهتزت الشرابليين على إيقاع مأساة حقيقية بفاس أودت بحياة خمسة أشخاص دفعة واحدة، وأرسلت ستة إلى المستشفى ثلاثة منهم حالتهم خطيرة، وقد وجدت ابتسامة حزينة تخرج مني قسرا بعد أن قرأت أن الأمر قد صدر بفتح تحقيق حول سبب ماوقع. أفترض هنا أن الجهة التي أمرت بفتح التحقيق هي جهة لطيفه للغاية ومسطولة مثلما يقول إخواننا المصريون، إذ هي مرفوعة تماما ولاتعرف ما الذي يجري في بلدنا، لذلك فوجئت المسكينة بالانهيار الذي لاتعرف له سببا، وطالبت فورا بفتح تحقيق لمعرفة ملابسات ماوقع. هذه الجهة لم تكن تعرف أن فاس كلها «ولات غير على سبة»، وأن الناس لاتنام بالليل إلا بعد أن تقرأ الشهادتين، وبعد أن يتصافح الجميع ويطلبوا المسامحة من «بعضياتهم» بسبب الحالة المريعة للمدينة العتيقة بالتحديد. وهذه الجهة اللطيفة ليست على علم أن اليونسكو والإيسيسكو و«كاع المنظمات» التي ينتهي اسمها بإيسكو، أعلنت فاس منذ سنوات عديدة مدينة مهددة بالانهيار، وأنجزت العشرات من التقارير التي تتحدث عن حالة كارثية لأغلب المساكن بالرصيف والطالعتين الصغرى والكبرى وعين أزليطن وطريق مولاي ادريس وبوجلود وبقية أحياء وحواري فاس القديمة. بل إن تحذيرات صدرت منذ عشر سنوات أو أكثر عن هيئات دولية عديدة قالت إن فاس أصبحت قنبلة موقوتة تهدد سكانها ومسؤوليها بالانفجار في أي لحظة. لذلك يبدو التحقيق الذي أمرت بفتحه هذه الجهة اللطيفة كما لو كان فقط تحصيل حاصل، أو خطوة لرفع العتب واللوم لئلا يقال مجددا إن الدم المغربي رخيص، وأن الروح الآدمية لاتساوي جناح بعوضة عند من يتولون تسيير شؤون هذا البلد الحزين. وإلا فليقولوا لنا أين وصل التحقيق في فاجعة مكناس التي كلفت المغاربة واحدا وأربعين إنسانا حسب الحصيلة الرسمية؟ وأين وصل التحقيق في جريمة روزامور المعمل الذي أقفل ربه على المشتغلات والمشتغلين فيه إلى أن قضوا حرقا دون أن يقول أحد «اللهم إن هذا منكر» في بلدنا الجميل هذا؟ يبدو أننا اليوم أصبحنا بحاجة إلى إغلاق هذه التحقيقات عوض فتحها دون أن نصل بها إلى نتيجة، ذلك أننا أصبحنا نفقد الأمل في التعرف على حقيقة مايقع لدينا في كل كارثة تمس البلد حين نسمع عبارة «الأمر بفتح تحقيق»، وأصبحنا شبه متأكدين مع هذه العبارة المبتذلة أنها تعني العكس تماما، وتقول لمن تسببوا في الكوارث التي يقال إن التحقيق قد فتح فيها «غير سيروا نعسوا على جنبكم اليمين، راه ماكاين لاتحقيق لامولاي بيه». أول أمس روزامور, وأمس مسجد مكناس واليوم الشرابليين، وغدا ماذا؟ للمغاربة حق طرح السؤال فعلا خصوصا وقد تأكدوا أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يهديه لهم مسؤولوهم بانتظام ودون أي تأخر هو الموت سواء حرقا أو تحت الأنقاض. وعندما نرى انشغالات من يحكمون فاس اليوم من شباط إلى الداودي فاللبار والبقية نفهم سبب عزوف الناس عن تصديف هؤلاء الكذبة، ونعرف أن الفارق مهول فعلا بين مايشغل بال «طبقتنا السياسية» من مخدرات وقتل وشفرة واتهامات متبادلة، وبين مايحرك هواجس شعبنا، والذي يمكن إجماله فقط في الرغبة في العيش، والحفاظ على حياة الأسر والأفراد من الموت الذي يقدمه لنا الأسياد يوميا دون أن نفهم السبب الذي يجعلهم يعطوننا الكوارث فقط، ويستفردون هم بملذات ومكاسب الحياة. بيننا وبين كثير منهم هذه الدماء البريئة التي تسيل هدرا، والمغربي حين يتعب ويفقد الأمل في الكل على سطح هذه الأرض، يرفع العين منه إلى السماء ويردد في دواخله دعاء المظلوم، ويقول إن يوما سيأتي بالتأكيد سينال فيه كل ظالم قصاصه عما جناه في هذه الحياة، ويمضي... رحم الله موتانا، ولاعزاء لنا في هذا البلد الحزين.