يعيش المجتمع المغربي على صفيح ساخن، حيث لم يسبق له أن عرف مثل هذه الحدة في الاختلالات الاجتماعية الصارخة وفشل السلطة في تدبير مجالات الديمقراطية والتنمية والتعليم والصحة والسكن...، بحيث لم يتحقق لها تقريبا سوى الفشل. ففضلا عن الاحتجاجات المستمرة للأعداد الغفيرة من حاملي الشهادات المعطلين أصبح القطاع العام شبه معطل، إذ لا يمضي يوم بدون إضراب في بعض القطاعات الحكومية... وإذا استمرت الظروف التي أدت إلى هذا الغليان الذي يعرفه الشباب والقطاع العام، فقد تنفجر الأوضاع بحيث لا يبقى شيء على ما هو عليه. لقد غدت المسيرات تنطلق بعفوية دون أي تخطيط. وهذا ما يدل على أن الحياة في بلادنا بلغت حدا من الرداءة لا يُمكن السكوت عنه، ما يقتضي تغيير أحوال المواطنين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا... إن الحالة المغربية لم تعد تحتمل، حيث عمَّ الغلاء واستفحل الفقر والبطالة والفساد والاستبداد، وهو ما أوصلنا إلى الحضيض في كافة المجالات. لقد فشل المسؤولون في كل شيء، حيث ضربنا الفقر وتم نهب ثروات البلاد والاعتداء على كرامتنا. والغريب في الأمر هو أنهم ما يزالوا يتحدثون عن إنجازاتهم. ونتيجة ذلك، عانى المغاربة من وطأة هذا الواقع خلال سنين، وكدنا نيأس من مناهضتهم إياه، بحيث نراهم يشاهدون مباريات كرة القدم والمسلسلات ويجلسون في المقاهي وكأنهم غير معنيين يما يحصل لهم... لقد جعلتني هذه الوضعية أكاد أظن أن الناس فقدوا إحساسهم بالعدل والحرية. ولم أتخلص من هذا الكابوس إلا يوم 20 فبراير الماضي حين فوجئت بعشرات الآلاف من الشباب المغربي يخرجون إلى الشارع مطالبين بالكرامة والحرية والديمقراطية... لقد كانت شرارة نابعة من رحم المجتمع المغربي تعكس تحولا حقيقيا فيه. كما أنها حطمت جدار الصمت وفجرت غضب الشباب المغربي من السياسات المتبعة في بلادنا. وقد أصاب الحاكمين فزع من استمرار هذه الحركة، حيث تعاملوا معها بعنف. وبالرغم من ذلك، استمرت المظاهرات والمسيرات السلمية بشكل منتظم ولم تتمكن السلطة من إخماد فتيلها، فوقف المغرب لا للتحدث عن نفسه، وإنما للتساؤل عنها... وهذا ما جعلني أدرك بوضوح أن اللهفة إلى الديمقراطية ما تزال تملأ عقول المغاربة وقلوبهم، وأن هدوءهم الذي كان باديا قبل ظهور حركة 20 فبراير لا يمكن نعته بالسلبية وإنما هو مجرد جمر تحت الرماد أو قشرة تخفي بركانا قد ينفجر في أية لحظة. والغريب في الأمر أن الزعامات الحزبية تركت حركة 20 فبراير تواجه وحدها قمع السلطة ولم تقف إلى جانبها.. وهذا ما يتعارض مع ما يحدث في البلدان الديمقراطية، حيث تنهض القيادات السياسية الديمقراطية والمثقفون الملتزمون وتتشكل لجان للدفاع عن حرية التظاهر والاحتجاج. لقد التزمت الزعامات الحزبية الصمت تجاه ما يحدث من اعتداء على الحريات ولم تنطق بكلمة واحدة تساند بها حركة 20 فبراير في مسيراتها السلمية من أجل تحقيق مطالبها العادلة بالديمقراطية... ولو أن هذه الزعامات تبنت هذه المطالب لتغيرت أشياء كثيرة في المغرب. لا يتكلم هؤلاء الزعماء عن الواقع المؤلم الذي يعاني منه ملايين المغاربة، ولم يجرؤ أي منهم على أن يسأل السلطة لماذا تمنع الناس من حقهم الطبيعي في المطالبة بالديمقراطية والحرية وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية؟ ولماذا ترفض عمليا أن يختاروا الذين يدبرون شأنهم العام؟ ألا يتناقض ذلك مع ما لا يتوقف الحاكمون عن ترديده حول إيمانهم بأن الشعب يجب أن يختار من يدبرون شؤونه؟... إن هذه الأسئلة وغيرها منطقية، ومع ذلك لم يمتلك واحد منهم الشجاعة على طرحها على السلطة مخافة إثارة غضبها، حيث تعتقد هذه الزعامات أن عدم إغضاب السلطة أهم من مستقبل بلادهم. يعود تقاعس هذه الزعامات إلى طبيعتها التي تتناقض جذريا مع طبيعة حركة 20 فبراير، ما يجعلها غير قادرة على مواكبتها ومساندتها، بل إنها في العمق معارضة لها لأنها ترى فيها خطرا عليها. يشكل تخلي الزعامات السياسية عن أداء واجبها الوطني تجاه الشعب المغربي ظاهرة مؤسفة حقا. لكن استمرار حركة 20 فبراير يؤكد أن الشعب المغربي لم يعد يقبل أن ينتظر إلى ما لا نهاية هؤلاء الذين يسكتون من أجل الاستفادة من الريع وتحقيق مصالحهم الصغيرة على حساب مصلحة الشعب والوطن. إذا كان من الضروري ألا تتنازل القيادات السياسية الديمقراطية عن كرامتها ومبادئها مهما كانت المغريات أو التهديدات، فإن ما يؤسف له هو أنه لما وضعت الزعامات الحزبية المغربية أمام الاختيار بين الشرف والمال، وبين المبدأ والمصلحة الشخصية، تبدى أن هذه الزعامات على استعداد للتنازل عن الشرف والمبادئ إذا كان ذلك مجزيا. تبرر هذه الزعامات انحرافها هذا بأن العالم قد تغير، وأن تفكيرها متطور ويتسم بالواقعية والمرونة. كما أنها تتهم كل من يختلف معها ويتمسك بالمبادئ بأنه متشدد ومنغلق وغارق في أوهامه... وهكذا، فعوض أن تنحاز إلى التمسك بالمبادئ لجأت إلى لغة الخداع من أجل التغطية على انحرافها ورغبتها الجامحة في الاستفادة من الريع... وهذا ما جعلها تفقد فعاليتها وتُنهي صلاحيتها وتقبل بأن تتحول إلى “فراخ دجاج” مجمدة في ثلاجة تخرجها السلطة في الانتخابات وغيرها من المناسبات... لا تهم هذه الزعامات المبادئ ولا الكرامة إطلاقا، إذ تسخر سرا من الكرامة والمبادئ والمقاومة لأنها تعتبر مثل هذه القيم مجرد شعارات بالية انتهى عهدها... لكن ما لا يعلمه هؤلاء الزعماء هو أن منطق “المنفعة الخاصة بدلا من المبادئ والكرامة...” قد تأكد فشله تاريخيا. لماذا لا يتقاعد زعماء الأحزاب السياسية في بلادنا كما تفعل القيادات السياسية في البلدان الديمقراطية؟ ولماذا لا يخلدون إلى الراحة حتى يتمتعوا بالحياة ويمنحوا الفرصة لطاقات جديدة تتولى القيادة؟ فمن المعلوم أن أي شخص في البلدان الديمقراطية، مهما بلغت كفاياته، لا يمكن أن يستمر عطاؤه أكثر من عشر سنوات. وهذا ما جعل تلك البلدان تحدد فترة تحمل مسؤولية القيادة في مدتين يستحيل بعدها على المسؤول أن يستمر في منصبه مهما بلغت فعاليته وإنجازاته. إن ما هو خطير عندنا هو أن السلطة في بلادنا تصنع الزعامات الحزبية وتمكنها من أسباب الغنى المادي، كما أنها تعمل ما في وسعها لإطالة عمرها على رأس أحزابها لتضرب استقلالية القرار الحزبي وتحكم سيطرتها على الحياة الحزبية بهدف تعطيل البناء الديمقراطي... لكن، هل الشعب المغربي بتاريخه وتراكماته عاجز عن ممارسة حريته؟ وهل ملايين المغاربة بمثقفيهم وأطرهم وكفاءاتهم عاجزون عن تكوين قياداتهم واختيارها؟... لقد أكدت حركة 20 فبراير أن المغاربة، على عكس ما يبدو عليهم أحيانا، يعون ما يجري في بلادهم؛ فهم عبروا عن رفضهم للظلم ولأن يلقى بهم بين براثن الفقر والبطالة.. وهكذا، فإن التغيير قادم. لكن من الأفضل أن تنخرط فيه السلطة في هذه المرة بجدية لضمان الاستقرار السياسي وترسيخه. لقد كان مطلب الديمقراطية مطروحا دائما من قبل المثقفين، لكن انضافت إليه اليوم مطالب اجتماعية واقتصادية وثقافية ولغوية. وتفيدنا دروس التاريخ أنه حينما يجد المثقفون أن فكرتهم لم تتحقق ويجد المطالبون بالتعليم والشغل والعلاج... أن مطالبهم لم تتحقق أيضا، فإن ذلك يشكل مؤشرا على أن اللحظة هي لحظة تغيير. لسنا على المستوى الإنساني أدنى من مواطني البلدان الديمقراطية، لكن لماذا يتقدمون ونتأخر؟...إن الفارق بيننا وبينهم هو الديمقراطية. فليس الغرب فردوسا أرضيا، وليس المواطنون هناك ملائكة؛ فهم يعانون من مشكلات شتى مثل العنصرية واضطهاد الأجانب والبطالة... لكن الديمقراطية تمكنهم من معالجة مشاكلهم وإصلاح أخطائهم، كما أن الدولة عندهم تحترم إنسانية الإنسان، في حين جعل الاستبداد عندنا كل شيء في خدمة أهل السلطة والمقربين منها... إن المغاربة في حاجة إلى من يثق فيهم ويترك لهم حرية الاختيار. وعندما يتوفر لهم هذا الشرط، فإنهم سيتصرفون بمسؤولية بما يضمن دمقرطة البلاد ويوفر شروط التنمية الفعلية واستقرار النظام والمجتمع.. لا يحتاج الإصلاح السياسي إلى نصف قرن، بل يحتاج إلى إطار دستوري ملكي برلماني حقيقي حتى نتمكن من بناء الديمقراطية استنادا إلى دعامات دستورية واضحة توفر شروط الانخراط في تحقيقها بشكل سلمي وهادئ ... يحترم المسؤول المنتخب المواطنين لأنه يعي أنهم هم من اختاروه وأوصلوه إلى موقع المسؤولية وبالتالي فهم يستطيعون إزالته إذا أرادوا ذلك. لكن عندما يتم حكم البلاد بأسلوب استبدادي أمني وفبركة انتخابات شكلية، فمن الطبيعي أن ترى السلطة في البشر الذين تحكمهم مجرد رعايا بلا حقوق إلا ما تتفضل به عليهم. ولضمان كرامتنا وتحقيق حريتنا ينبغي أن تكون السيادة فعليا للشعب وحده حتى ننتخب بإرادتنا من يدبرون شؤوننا العامة...، وبذلك نتمكن عبر الديمقراطية أن نصير مواطنين لا رعايا.