هم آباء حرموا من طعم الراحة والطمأنينة بسبب ظروف عمل بناتهم في قطاع التعليم، والتي حتمت عليهن العيش في مناطق نائية بعيدا عن دفء أسرهن، قبل أن ترغمهم «لكبدة» ومشاعر الأبوة على التخلي عن حياة الرفاهية التي اعتادوا عليها بالمدينة والانتقال للعيش مع بناتهم في القرى التي يعملن بها في محاولة لحمايتهن من المخاطر المحدقة بهن. بوجه تعلوه السعادة واللهفة، جمع الحاج عبد الله أمتعته وحزم حقائبه، استعدادا للعودة إلى منزل أسرته بمدينة الدارالبيضاء، لملاقاة زوجته وأبنائه الثلاثة، بعد سنة كاملة قضاها بعيدا عنهم رفقة ابنته الكبرى بإحدى القرى النائية حيث تعمل كمعلمة. يتحدى الظروف لحماية ابنته حرص الحاج عبد الله عندما رافق ابنته للمرة الأولى إلى القرية حيث تم تعيينها على تركيب باب حديدي وعدد من الأقفال بالمنزل الصغير الذي سوف يصبح مسكنا دائما لها، كما أصر على أن يقضي معها بضعة أيام يؤنس خلالها وحدتها، ويساعدها في الوقت ذاته من خلال نصائحه على التأقلم مع أجواء البادية التي لم تكن مألوفة بالنسبة إليها، قبل أن يشد الرحال عائدا إلى بيت الأسرة. اكتفى الأب ذو الخامسة والستين عاما بالاطمئنان على ابنته من خلال المكالمات والرسائل الهاتفية، بحيث لم تكن تمضي بضع ساعات حتى يعيد الاتصال بها ليسأل عن أحوالها ومدى تكيفها مع ظروف عيشها الجديدة. ظل الحاج عبد الله يلمس الكثير من التفاؤل والشعور بالرضى في كلام ابنته التي كانت تطمئنه في كل مرة وتؤكد له بأنها تحظى بأفضل معاملة من طرف سكان القرية الذين يغمرونها بكرمهم ومحبتهم. لكن سرعان ما سيتغير الوضع بعد أن تخبره الابنة في أحد الأيام بأن شخصا مجهولا حاول اقتحام منزلها تحت جنح الظلام لكن إغلاقها للأبواب والنوافذ بإحكام حال دون نجاحه في تلك المهمة. استبدت مشاعر الخوف والقلق بالحاج عبد الله من أن تتعرض ابنته لمكروه لكونها تعيش بمفردها في مكان ينعدم فيه الأمن وكل شروط السلامة، ليقرر الأب في نهاية المطاف أن يلتحق بابنته ويستقر معها بالقرية التي تعمل بها، بينما تظل زوجته مع باقي الأبناء في المنزل، وتتولى بمفردها مهمة الاهتمام بهم في غيابه، بعد أن فشلت كل محاولاته في إقناع الابنة بأن تتخلى عن وظيفتها وتعود للعيش في أحضان أسرتها. وجد الحاج عبد الله صعوبة كبيرة في التأقلم مع نمط الحياة الجديد الذي فرضته عليه ظروف عمل ابنته، لأنه لم يعد يجد أي وسيلة يشغل بها نفسه في الوقت الذي تزاول فيه ابنته عملها بالمدرسة، بحيث كان يكتفي بالمطالعة وتصفح المجلات في انتظار عودة ابنته ليتبادل معها أطراف الحديث. كان الحاج عبد الله يتغلب على شعور الملل الذي يعرف دوما الطريق إلى نفسه بالنظر إلى وجه ابنته، وحجم السعادة التي تستمدها من وجوده بجوارها، ما يزيد في إصراره وعزيمته على تحدي كل الظروف والصعاب من أجل حماية ابنته، وعدم تركها أسيرة للوحدة. يحاول التأقلم مع حياة البادية لا تختلف كثيرا الظروف التي قادت مصطفى إلى الالتحاق بابنته في مقر عملها بأحد الدواوير، فهو بدوره حرم من طعم الراحة بعد أن أصبحت فلذة كبده تعيش بعيدا عنه وعن والدتها وإخوتها الذين عجزوا عن تحمل فكرة ابتعادها عنهم. الانتقال للعيش بالبادية، لم يكن بالقرار الهين على الرجل ذي الخامسة والستين سنة، الذي اعتاد على حياة الرفاهية بالمدينة، لكنه وجد نفسه مرغما على اتخاذ ذلك القرار الصعب، بعد أن أدرك بأن ابنته لن تستطيع العيش بمفردها أو الاعتماد على نفسها، بسبب تربية «لفشوش» التي تلقتها في منزل أسرتها. مصطفى الذي كان يحب الخروج من أجل التنزه، كما يحرص على مجالسة رفاقه المتقاعدين بالمقاهي، وجد نفسه فجأة محروما من كل تلك الأمور التي يجد متعة كبيرة في القيام بها، ومرغما على قضاء ساعات طويلة وحيدا بين أربعة جدران في انتظار عودة ابنته، بعد انتهاء الحصص التي تلقيها على مسامع تلاميذها في المدرسة. وجد الأب نفسه مضطرا أيضا إلى ممارسة هواية الطبخ التي تخلى عنها لسنوات طويلة ظل خلالها «ما كيحركش لكاس من بلاصتو» في وجود زوجة توفر احتياجات المنزل وتلبي كل متطلباته، لأن ابنته المدللة لا تجيد الطهي والاهتمام بأمور المطبخ. كانت الساعات والأيام تمر ببطئ شديد على مصطفى، لأن البيت الذي يعيش فيه مع ابنته يفتقر إلى شروط العيش الضرورية كالكهرباء، وهو الأمر الذي حرم الرجل حتى من متعة مشاهدة بعض البرامج على شاشة التلفاز، ليملأ أوقات فراغه الطويلة، ويتخلص من الملل الذي يحاصره. حاول مصطفى في أوقات كثيرة نفد خلالها صبره، وبعد أن سئم من حياة البادية، أن يضع حدا لمعاناته تلك بالرحيل والعودة إلى منزله بالمدينة، لولا «لكبدة» التي كانت تمنعه في آخر لحظة من الإقدام على تلك الخطوة، وشعوره بحاجة ابنته الماسة إلى تواجده بجوارها.