…وأخيرا وجدها الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فبعد جهد جهيد، وتفكير عميق، وتشخيص دقيق، والنظرة الثاقبة، والتحليل المستفيض اكتشف أن الحكومة الملتحية فشلت في تدبيرها للشأن العام كما لو أنه كان ينتظر منها عكس ذلك.والحال أنها بعد أكثر من سنة ونصف في ممارسة السلطة لم تتخذ ولو قرارا واحدا أو مبادرة واحدة تعود بالخير والبركة على البلاد والعباد والحرث و الدواب، بل نراها تدخل في مسلسل الزيادة في الأسعار، وتجميد التوظيف والأجور وبتر ميزانية الاستثمار واللائحة قد تطول والأسوأ في قاعة الانتظار. وتقدم لنا ذلك على أنه قدر محسوم لا بديل له سوى السمع والطاعة وكل من عارضها أو خالفها الرأي، إما هو من المفسدين، وإما يشهر في وجه مشايخها ورقة التكفير. وينضاف إلى عمق التفكير البعد السياسي عندما يطالبها الأستاذ لشكر بالقيام بالإصلاحات التي تفرضها التحديات التي تواجه البلاد ،كما لو أنها قادرة على ذلك .يكفي فقط أن تكون لها الإرادة السياسية و تنهج الطريقة المثلى،وقد نسي أستاذنا أن فاقد الشيء لا يعطيه . فلقد أثبتت كل تجارب التيارات الإسلامية بجميع أصنافها، التي مارست الحكم أو تمارسه الآن أن الفشل هو حليفها و مرادف لها .والسبب في ذلك بسيط وناصح يسمعه الأصم ويراه الأعمى. ذلك أن كل المفكرين المتحررين الذين يهتمون بتلك التيارات خلصوا إلى أنها لا تتوفر على مشروع مجتمعي بل على مشروع سياسي تؤطره منظومة فكرية وأخلاقية ،مفاده أسلمة المجتمع واحتلال السلطة في أفق بناء الدولة الدينية كمدخل لإحياء الخلافة الإسلامية على نمط الخلافة الراشدية.وأن حزب العدالة والتنمية لا يمثل في هذا الإطار استثناء.لذا نجده يكد و يجتهد لاختراق المجتمع المدني عبر تنظيمات خيرية واجتماعية موازية،ويصدر أول قانون للتعيينات في المناصب السامية لاحتلال المراكز الحاسمة داخل الدولة والإدارة عبر أطره. فلو كان لتلك التيارات مشروع مجتمعي لأنصفوا حوله و لما وجدناهم طوائف وعشائر تتناحر فيما بينها.وكل واحدة منها تدعي أنها على صواب وتمتلك الحقيقة المطلقة ،ولما وجدناهم أيضا يحفرون في الماضي الغابر لاستخراج ما يعتقدونه الحلول لمشاكل و طموحات المواطنين والحال أن الماضي ذاته يحمل في طياته عوامل تخلفنا . ولما وجدناهم أخيرا يستنجدون بالدين لتعليل قراراتهم وخطبهم ،والحال أيضا أن التاريخ يثبت أن كل استغلال للدين في السياسة يتبعه الفشل . فلقد توسل الإمام علي إلى الدين لتعليل سياسته ،فتمزقت صفوفه وأصابه الفشل . واستعمل معاوية السياسة والحيلة، فكانت له الغلبة والنصر. وعندما أراد البيعة لابنه يزيد لم يستنطق الآيات ولا عصر سنة، بل قال فقط لقد أوصى بها أبو بكر لعمر . ونحن إذ نستحضر هذا المثال بالذات للتأكيد على أن التيارات الإسلامية عبر التاريخ ما هي إلا امتداد للصراع حول الحكم بين آل البيت وآل سفيان و ليس من مبتغاه لا خدمة الدين و لا خدمة العباد .فلا هي محبة في الدين و لا هي حبا للوطن، إنها وبكل بساطة التعطش إلى ممارسة السلطة والتحكم في رقاب الناس . إن المشروع المجتمعي الذي تفرضه الظرفية الراهنة وينادي عليه المستقبل يستدعي حتما العلمانية و الحداثة و الديمقراطية. وموقف حزب العدالة والتنمية من هذه المفاهيم لا يحتاج إلى تأكيد . فمنظومته الفكرية ترفضها جملة و تفصيلا . لذا فإن سر نجاح حكومة التناوب التوافقي في إنقاذ البلاد من الهاوية ،ووضعها على سكة الديمقراطية و التنمية بإمكانيات أضعف و بسلطات أقل ،يكمن في كونها جعلت من تلك القيم الثلاث بوصلة لعملها الحكومي كما أن سمو الملكية المتصاعد يكمن في كونها تدفع بتلك القيم إلى الأمام.و ليس بالركون إلى الماضي أو بالتوسل إلى الدين و الاستنجاد به . إن الحزب الذي يحرم الشعب من حرية التفكير وحرية الضمير يحكم عليه بالإعدام. ولا يمكنه أن يدعي أنه ديمقراطي، لكنه ينتج في نفس الوقت عوامل مقاومته. وقد بدت تتجلى معالمها من خلال بعض مواقف المعارضة،حزبية كانت أم جمعوية، أو نقابية. وأتمنى أن يفضي ذلك إلى تكوين حلف وطني يشمل كافة القوى السياسية الديمقراطية، والتنظيمات النقابية والجمعيات الحقوقية والمدنية كما يحدث في فرنسا ضد الجبهة الوطنية . إن حزب العدالة والتنمية إن هو أراد حقا خدمة البلاد والعباد عليه أن يحقق التصالح بينه و بين الديمقراطية والحداثة ولكن ذلك لن يتأتى إلا بتغيير جذري لمنظومته الفكرية ، لكنه في نفس الوقت سيفقد هويته وسيصبح حزبا عاديا وهو ما لن تطاوعه فيه قواعده. وإن هو أراد البقاء في السلطة عليه أن يبتلع عدة أفاع كما يقال بالفرنسية، وهو ما سترفضه قواعده . وفي كلتا الحالتين سيعمق الهوة بين المعتدلين والمتشددين من صفوفه. وكيف ما كان الحال فإن بقاء الإسلاميين في الحكومة أو مغادرتها، أحلاهما مر، فمن جهة لن تتحمل البلاد ثلاث سنوات أخرى من الارتجالية و العشوائية و الانتظارية، لأن ذلك سيعمق حالة الاحتقان التي تعاني منها البلاد وسيؤجج عوامل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي لاحت في الأفق معالمها، خصوصا أن حدتها تستدعي لا محال قرارات لا شعبية وقد دشنت الحكومة مسلسلها. بالمقابل سيقوي هذا الوضع شوكة المعارضة، وسيعطي الدليل على عجز الحكومة الإسلامية في تدبيرها للشأن العام، وبالتالي من المفروض أن يكتوي حزب العدالة والتنمية بانتكاسة انتخابية في الولاية التشريعية المقبلة. أما إن غادر الإسلاميون الحكومة فإنه سيضع بالفعل حدا لسياسة الارتباك والتخبط لكنه في نفس الوقت سيضيع على الدولة فرصة تمرير القرارات اللاشعبية التي تتطلبها حتما التحديات الاقتصادية والمالية التي تواجه البلاد، لأن السماح لهم بربح رهان الانتخابات والوصول إلى السلطة كان على هذا الأساس، بالمقابل فإن إقالتهم من الحكومة ستسهل عليهم لا محال ربح رهان الانتخابات المقبلة لأنهم سيقدمون أنفسهم ضحية تواطؤ القوى السياسية عليهم. وأنهم لم يعط لهم الوقت الكافي للقيام بالإصلاحات التي يوعدون بها .خصوصا أن الأحزاب المدنية ما زالت بعيدة كل البعد عن تنظيم تحالف انتخابي لمواجهتهم .