ماذا لو خاض المرء ذات يوم مغامرة تحت عنوان«يوم في محكمة مغربية»؟، حتما سيجد نفسه كائنا غريبا في فضاء، تحكم ساعات نهاره أعراف وتقاليد خاصة. سيجد المرء نفسه، رهين أجواء تميل إلى فوضى«خلاقة»، لحالات إنسانية تنتظر فرج الأقدار. فجأة يصطدم بوجود طقوس«البيع والشرا». طقوس تستمد «كينونتها» من سلوكيات «جبد إلى بغيتي غرضك يتقضى». هكذا دون مقدمات يشرع «السماسرة» الصغار في لغة المساومات. أما «سماسرة الهاي كلاس»، فعروضهم الجادة، تُنسج فصولها بعيدا عن صخب المحكمة حيث الفنادق المصنفة والمقاهي الفاخرة.. في هذا الاستطلاع نُتابع كيف حسمت خدمات الوسطاء مسار ملفات قضائية! يمسح بيده اليسرى لحيته الغزيرة البيضاء، التي يتنافر لونها الأبيض مع سمرة وجهه، ثم يقف استجابة لدعوة القاضى، بقامته الطويلة، وقده المنسجم، وملامحه الشاردة. كانت عضلات وجهه منقبضة، وهو يرفع يده معلنا حضوره لرئيس الهيئة. هكذا بدا «السمسار»، الذي انتحل صفة نائب لوكيل الملك بالدارالبيضاء، ونصب على متقاض بالمدينة، خلال أولى جلسات محاكمته. حدث ذلك خلال شهر دجنبر من السنة الماضية. من قواعد اللعبة.. "نش على راسك"؟! خلافا لغيره من السماسرة القدامى ، كان هو مشهورا بكثرة تردده على المحاكم. يقدم نفسه للمتقاضين كشخصية نافذة، له علاقات مع مسؤولين قضائيين معروفين. كلما شك في أمره أحدهم، إلا وأشهر في وجهه، بطاقة تحمل خطين أحمر وأخضر. نجح السمسار في تحقيق مبتغى العديد من زبنائه المتقاضين، إلى أن افتضح أمره من طرف أحدهم، تقاضى منه مبلغ مليوني سنتيم، لكنه لم يف بوعده له، بتخفيف العقوبة السجنية الصادرة في حق قريبه خلال المرحلة الاستئنافية. اعترف الضحية في محاضر البحث التمهيدي، أن السمسار كشف له، بأن مسؤولا قضائيا بارزا في البيضاء، سيتدخل في ملفه. لكن الضحية تراجع عن تصريحاته التمهيدية أثناء المحاكمة. الجواب نفسه جاء على لسان السمسار خلال استنطاقه من طرف القاضي، «أشتغل لحسابي الخاص..». حسب العارفين بخبايا عمليات السمسار، فالأخير كان ملما بقواعد اللعبة، وهو جعل أشواط محاكمته تمر بسلام. «نش على راسك»، تبقى هي القاعدة الأولى في «مدونة السلوك» الخاصة بسماسرة المحاكم، لاسيما الذين يشتغلون ضمن سلسلة، تضم مسؤولين قضائيين ومحامين وموظفين عموميين. يقول وسيط، فضل عدم الكشف عن هويته، «واش عمرك شفتي شي سمسار طاح وجر معاه صحابو.. وحتا إذا سخن عليه راسو معندو ما يدير حيث هدوك الناس محميين مزيان». تنص القاعدة المذكورة على كتمان هوية أطراف الشبكة في حالة افتضاح أمر السمسار، وذلك مقابل ضمانات متعددة، على رأسها التدخل في مسار قضيته والتأثير على مجرياتها. رغم أن السمسار هو العنصر المهم داخل هذه السلسلة، بالنظر إلى الدور الذي يقوم به، كالتنسيق بين الأطراف المتدخلة، وتحديد الأتعاب وسقف المبالغ المالية المدفوعة ، فإنه يبقى الحلقة الأضعف في معادلة يحكمها منطق المال. يقول المصدر السابق، إن مهنة سمسار محاكم، تبقى أخطر ميدان يمكن أن يقتحمه الوسيط. ترى لماذا؟ الجواب على السؤال يأتي على لسان المصدر السابق، «العمل كسمسار بالمحاكم، يبقى محفوفا بالمخاطر والصعاب الجمة، بسبب تقاطع دور السمسار مع أدوار جهات متعددة، وهو ما قد يجر عليه متاعب كبيرة». يستطرد موضحا «شخصيا أعرف وسطاء عملوا بالمحاكم لسنوات، قبل أن يسجنوا بسبب قضايا الشكايات الكيدية، أو التلبس بتلقي رشوة.. وغيرها. قلة قليلة هم الذين يتوجهون من السماسرة إلى العمل بالمحاكم، الغالبية من الوسطاء ينشطون في إطار قطاع العقارات المبنية والعارية والسيارات حيث مافيها عافية..». سماسرة يعملون لفائدة «السماسرية الكبار»؟! سلطت قضية السمسار الذي انتحل صفة مسؤول قضائي، الضوء على العديد من الوقائع الخفية، التي تُميز عمل سماسرة المحاكم، كالجهات التي تُساعدهم في ضمان تحقيق وعودهم لصالح المتقاضين المتعاملين معهم، كخدمات التوسط قصد تخفيف حكم قضائي، أو إلغائه. مثلا كيف يتسلم عمولته؟ وكيف يُنسق مع أطراف الشبكة، خاصة الذين لهم قدرة في التأثير على مسار ملفات رائجة أمام القضاء؟ الشريف (اسم مستعار)، سمسار محاكم كشف في أجوبته، بعضا من هذه الحقائق المُغيبة في عمل هذه العينة من السماسرة ، «ماشي غير جي وخدم سمسار في المحكمة.. خاصك تكون مكوفري مزيان.. هاذ الهضرة خاصة بالسماسرية الكبار اللي عندهم علاقات كبيرة.. عرفتي هاذو مكيعمروش المحاكم.. بلايص الخدمة عندهم بعيدة على فضاء المحكمة.. غير النصابة هم اللي كتلقاهم كيدوروا في المحاكم، وكيقلبوا على الضحايا»، يقول الشريف، وهو يعدل من جلسته على أريكة جلدية، تتوسط الصالون الرئيسي لفندق فاخر بشارع أنفا وسط العاصمة الاقتصادية. يستطرد موضحا، «عرفتي واحد القضية.. عرفتي السماسرية الكبار راه عندهم سماسرية ديالهم، كيتوسطوا ليهم في لي بونزافير.. ياك فهمتيني مزيان.. هاذ الدومين راه صعيب شوية.. ولكن مني كتخدم مع سمية كبيرة، ما عند بنادم مناش يخاف!». وحول التعويضات والعمولات التي يتلقاها سمسار المحكمة، اعتبر الشريف، أن قيمتها تختلف بين كل ملف وآخر، «كاين ملفات سمسار بوحدو يقدر يطلع بشي 100 مليون سنتيم.. إييه ضْريبه وحده يقدر يضرب فيها مليينات صحاح». إذا كان السمسار يُقدم خدماته في إطار شبكات نافذة، تُقدم له الدعم والحماية اللازمة، ففي بعض المرات، قد يسقط ضحية تصفية الحسابات، أو أخطاء في التقدير أو التصرف قد تجعله تحت رقابة رجال الأمن، قبل أن يسقط متلبس بتلقي رشوة، ليكون مصيره الإيداع في السجن، «كاين بعض السماسرية اللي كيتغروا شوية براسهم، بحال واحد عمرو ما دخل للمحكمة.. ديما خدام على برا.. مشا عند واحد صاحبو باش يدوز ليه القضية لواحد الأستاذ.. مع الدخلة وقفوا بوليسي.. هو يقول ليه أنا مدير ديوان وزير العدل..ههههه»، يقول الشريف، قبل أن يضيف «بعد دقائق وجد نفسه داخل مكتب وكيل الملك، الذي طلب منه إثبات هويته، عجز السمسار عن ذلك، ليجد نفسه في السجن بسبب انتحال صفة.. المهم راه نش على راسو والسلام». كيف تمر السمسرة؟! «السماسرية ديال دابا مابقاوش كيتعاملوا بالشكارات.. دابا كاين لو ريب ديال البنك والميساج اللي كيأكد عملية التحويل البنكي.. أما جوا ديال الفلوس.. هذاك الشي فيه المخاطرة.. واخا مازال كاين الناس كيتعاملوا بيه»، يقول الشريف عن عمليات السمسرة الراقية، التي حسمت مسار ملفات قضائية كبيرة، «واحد القضية ديال صحاب الشمال، صورت فيها 150 مليون سنتيم.. هاذا النصيب ديالي أنا.. أما الناس اللي فوق، فتهلاو فيهم مزيان.. دابا كاينا واحد العملية جديدة.. جميع ليزافير كتدوز في الفيلات.. هاذ العملية مضمونة.. مافيهاش الصداع»، يقول الشريف عن مسار عمليات السمسرة «المفخفخة» حسب توصيفه. في الكثير من الأحيان، يجد السمسار نفسه مقررا في الملف لوحده، وذلك بعدما يحصل على «الضوء الأخضر» من الجهات التي يتعامل معها، «كيقدر تحيد عليه عام ب 50 مليون سنتيم.. هاذ الطريفة كنخدم بها مع صحاب الهاي كلاس.. المهم كلشي كيدوز كيفاش بغاو الناس المسؤولين. أما السمسار فيبقى صلة وصل بين الطرفين.. ونهار يتفرش كيطيح غير بوحدو»، يقول الشريف مختتما كلامه بقهقهة قوية، جعلت أغلب الحضور يلتفت نحوه مستغربا. قد يتعرض العديد من المتقاضين لعمليات نصب. عمليات يُفسرها الشريف، بأنها تبقى من فعل «السماسرية المدرحين» حسب قوله. «شوف راه كاع السمسار اللي يجي عندك ويقول ليك راه عندو شي واحد صحيح في الرباط، أو يجبد ليك سمية ديال شي واحد.. راه غير نصاب وصافي.. السمسار الحقيقي هو اللي كيعرف كيفاش خاص لافير تدوز بلا سميات بلا عياقة.. المهم هي الفلوس كيفاش تدخل لجيبو وجيوب الناس ديالو… سالينا!» سماسرة الملايير! قبل أشهر، اهتزت المحكمة التجارية الابتدائية بالبيضاء، على وقع اختفاء أحد السماسرة، مباشرة بعد أن رسا عليه المزاد العلني المتعلق ببيع مقر شركة لعجلات السيارات، تعرضت للتصفية القضائية. انتظر العمال لمدة عقدين من أجل تسوية وضعيتهم المعلقة، وبلغت قيمة الصفقة 7 ملايير سنتيم. انتهت حكاية المزاد بفضيحة، كان ضحاياه من بوزنيقة والقنيطرة ومدن أخرى. أما البداية، فانطلقت مع رسو الصفقة على السمسار، الذي تبين أنه يحمل ثلاث بطائق وطنية، إحداها تشير إلى أنه مسير شركة وأخرى فلاح والثالثة تحمل صفة رجل أعمال. بلغ سقف المزاد العلني 6 ملايير و900 مليون سنتيم، مع 10 في المائة، خاصة بالرسوم القضائية المستخلصة لفائدة الدولة، ما يعني أن الثمن الإجمالي الذي ينبغي دفعه يتجاوز سبعة ملايير. مرت مراحل المزاد بشكل سلس. كان هناك شبه اتفاق بين السماسرة على تفويت الصفقة لصديقهم. صفقات المزاد العلني المرتبط بالحجوزات، يلفها غموض كبير. الكل يُمني نفسه من أجل الحصول على الصفقة، لكنها تبقى منافسة صورية، مرتبطة بوسائل العمل في بورصة المزادات، حيث تتقاطع أدوار جهات عدة. منها السماسرة والمفوض القضائي وقاضي التنفيذ. بعد انتهاء المزاد العلني، وضع السمسار شيكا غير مضمون، بالقيمة الإجمالية للمزاد العلني، وذلك على أساس تسوية الوضعية في أجل ثلاثة أيام. إجراء يتم بعد موافقة رئيس المحكمة، غير أن السمسار، لم يعوض الشيك بآخر مضمون حسب ما جرى به العمل. تبين بعد دفع الشيك للبنك، أنه شيك بدون رصيد، مما أوقع المحكمة في حرج شديد. فاق العرض الذي قدمه السمسار جميع العروض، بل فاق بكثير القيمة التي حددت في الخبرة التي استعانت بها المحكمة لتحديد ثمن بيع العقار. كان عبدالرحيم أحد السماسرة، الذين حضروا المزاد المذكور، وتابعوا مجرياته، قبل أن يتناهى ٌإلى أسماعه، حكاية ال 7 ملايير التي انتهت بواقعة نصب واحتيال. «تمكن السمسار من التلاعب بمجموعة من المقاولين ورجال الأعمال بالمدينة. اعتمد على الوثائق التي منحتها له المحكمة. وهي الوثائق التي تشير إلى اقتنائه عقارا، تبلغ مساحته 13 هكتارا، هكتاران منها تطل على البحر. شرع بعد ذلك في الاحتيال عليهم، وذلك باقتراحه عليهم الدخول معه شركاء في الأرباح التي سيجنيها من بيع العقار بعد استكمال باقي إجراءات البيع والتسجيل والتحفيظ»، يقول عبدالرحيم تسلم مئات الملايين من السنتيمات من ضحاياه، منها 650 مليون سنتيم وشيك بنكي بقيمة 250 مليون سنتيم، سلمه إياه رجل أعمال يتحدر من ضواحي العاصمة الرباط، وكذلك مبلغ 500 مليون سنتيم، تسلمها من مقاول يتحدر من مدينة مراكش، إضافة إلى مبلغ مالي ضخم من مقاولة يوجد مقرها بالأقاليم الصحراوية. برع السمسار في حبك سيناريو مشاركة الأرباح، ورغم توجه بعضهم إلى المحكمة من أجل التأكد من هوية صاحب العقار، فإن الحيلة انطلت عليهم. بعد حصوله على ملايير السنتيمات، حاول الفرار خارج المغرب، ليتفاجأ بأن وكيل الملك، أصدر أمرا قضائيا بإغلاق الحدود في وجهه، خاصة بعدما أقدمت المحكمة التجارية على دفع الشيك المقدم لها على سبيل الضمان. بعد تنقيطه، تبين أن السمسار سبق له المثول لمرات عديدة أمام المحاكم، بسبب اتهامات باستعمال وثيقة مزورة وصنع شهادات تتضمن وقائع غير صحيحة وإصدار شيكات بدون رصيد، إضافة إلى ملف معروض على غرفة الجنايات باستئنافية البيضاء، يتعلق بتزوير شهادات ملكية. في نهاية مغامرته، أتقن السمسار دوره واحترم قواعد اللعبة، وبرع في ترجمة قاعدة "نش على راسك" على أرض الواقع. محمد كريم كفال