وجوه ارتسم عليها خليط من الحزن والخوف على مصير آباء وأبناء وأقارب أوقعهم القدر ضحايا أمراض وإصابات. ومرضى يعتصرهم الألم في انتظار أن يأتي عليهم الدور للخضوع للفحص, وعدد كبير من الأطباء الرسميين والمتمرنين والممرضين ببذل اختلفت أشكالها وألوانها دون أن يكون لكثرة عددهم دور في تقليل مدة الانتظار. هكذا كان المشهد ليلة الجمعة السبت الأخيرين داخل مستعجلات مستشفى ابن رشد. ليلة خرج جل من تابع وقائعها مقتنعا بأنه “باقي خاصنا بزاف باش نوفروا الخدمات الصحية للمواطنين في ظروف إنسانية ولائقة”. اختفت أشعة الشمس وساد الظلام وبدأ العشرات في التوافد على مستعجلات مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء. صراخ وأنين وآهات, وعبارات احتجاج تخرق جدار الصمت ما إن تجتاز مكتب الاستقبال وتلج إلى داخل قسم المستعجلات. رجل مغمى عليه واخر تعرض لطعنة بسكين واخر صدمته دراجة ورابع تعرض للاختناق ويكاد يعجز عن التنفس وسيدة تتلوى من شدة آلام لم تتبين بعد مصدرها … مشهد يجعلك تعتقد أن المغاربة كلهم مرضى في ليلة باردة يصعب نسيان وقائعها. احتجاج من أجل هنية كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلا. المشهد بدا عاديا وفجأة دوى الصراخ وتعالت عبارات الاحتجاج في أرجاء المكان. “غادي نبقاو هنا تانفاسروها” عبارة خرجت من فم رجل بدأ الشيب يشق طريقه وسط خصلات شعره. الكثير من أقارب ومرافقي المرضى تساءلوا “آش كاين. آش واقع” ليركض العديد منهم إلى قاعة الفحص الخاصة بالأمراض الباطنية. حيرة المتجمهرين وفضولهم لمعرفة تفاصيل ما يحصل ازداد وهم يسمعون سيدة تصرخ بدورها قائلة “را قبيلة سمعت واحد الكلمة وميكت. قال ليه ملي تايبغيو يتفكو من واليديهم تايجيبوهم يحطوهم لينا هنا ولكن حنا غادي نبقاو هنا حتى نفاسروها”. آ الشريف. مالك آش واقع؟ سؤال أحد المواطنين جعل محمد كردة يسترسل في شرح تفاصيل حكاية أثارت تعاطف كل من سمعها. “شوفو حالة هاذ المرا را ما بقا فيها مايتشاف وما بغاوش يشدوها فالسبيطار. هاد الناس تايتفلاو علينا. 4 أيام وحنا تانجريو فالسبيطار المحمدية وسيفطونا لهنا وهاذو ما بغاوش يشدو الواليدة باش يفتحو ليها.. هاذ الناس تايلعبو بينا الكرة”. هذا الكلام دفع المزيد من المواطنين إلى الاقتراب من مصدر الصراخ لمعرفة ما يقع ومتابعة تصريحات محمد الذي خيم الحزن على ملامح وجهه وهو يعرض ما حصل ويحصل له ولزوجته وشقيقه ووالدته المريضة. ” الواليدة ديالي ضاراها المرارة ومشينا لمستشفى مولاي عبد الله فالمحمدية وبقاو علينا ديروا هاذ التحاليل وديروا التلفازة و وقالوا لينا أنها خاصها تدير العملية الجراحية”. ولكن علاش ما داروش ليها العملية في المحمدية؟ ابن هنية عيار, التي تجاوز عمرها 82 سنة, لم يتأخر في الإجابة على سؤال “الأحداث المغربية”, حيث قال “أسيدي قالوا لينا ما عندهمش شي أباراي ديال القلب وسيفطونا هنايا وهاذو ملي جينا سيفطونا نديرو التحاليل والراديو والتلفزة وفي الأخير تايقول لينا الطبيب السيدة ما غادياش تنعس وما محتاجاش تفتح بشكل مستعجل…” زوجة محمد لم تكن أقل منه غضبا من واقع لم يعد يطاق سيما أنها لم تفهم “علاش ما قالوهاش لينا من الأول علاش يخليونا تانخسروا 50 ألف ريال عاد يقولوا لينا ما غادينش يشدوها باش تفتح”؟ سير وآجي… ! عبارات التعاطف بدأت تنهال على محمد وأفراد أسرته. “ما يكون باس”. “الله يجيب الشفا أما العبد ما تتسنى منو والو”. “المسكين لهلا يكتب عليه يمشي لشي سبيطار ديال المخزن” كلمات عكست استياء دفينا من طريقة معاملة المرضى في المستشفيات المغربية مقارنة مع الدول المتقدمة. حسب محسن لا وجه للمقارنة ببساطة لأنه ” فأوروبا يلقاوك طايح فالزنقة يقلبوك ويداويوك هو الأول وملي تبرا عاد يتذاكروا معاك”, قبل أن يضيف قريب مريض اخر مازال ينتظر دوره في الدخول إلى قاعة الفحص ” فهاذ البلاد تايتفلاو على المواطنين وطبيب يلوحك لطبيب بحال إيلا حنا ماشي بنادم”. شكون اللي طبيب؟ “خليها تما والله اليوم ما غادي نتفاك معاهم. وما غاديش نديها من هنا”. كلمات رددها محمد مرارا. الغضب بدا جليا على محيا الرجل, الذي غالب دموعه وهو يشرح كيف ظل طيلة أيام ينتقل من مستشفى لاخر. رغم ذلك فقد ظل صابرا وأمله الوحيد هو أن تخضع أمه لعملية استئصال المرارة قبل انفجارها. الطبيب الجراح, الذي رفض إجراء العملية لهنية بحجة أنها ليست حالة مستعجلة عاد إلى قاعة الفحص من جديد ليجد نفسه وجها لوجه مع محمد وزوجته وشقيقه ومحاصرا من أقارب مرضى اخرين يعتصرهم الألم في انتظار تأشيرة تسمح لهم بالاستلقاء على إحدى أسرة المستشفى في اتظار الخضوع للجراحة. محمد مازال يبحث عن تفسير لمعضلة لم يفهمها. فكيف يقول طبيب بمستشفى المحمدية إن المريضاة تحتاج إلى الخضوع للجراحة بشكل عاجل, ويقول طبيب آخر بالدار البيضاء إن العملية الجراحية غير ضرورية في الوقت الراهن. مازاد من حيرة وحسرة وغضب هو الآلام التي كانت تحس بها والدته وهي تتلوى على “الباياص” في انتظار معرفة مصيرها. المرأة المسنة لم تذق الزاد منذ أربعة أيام بسبب نوبات القيء التي لا تتوقف. طيلة هذه المدة ظلت هنية تعيش فقط على ما يمنحه السيروم لجسمها من مواد تعوض نقص التغدية في انتظار أن تنتهي معاناتها بإجراء عملية جراحية بدت صعبة المنال.. الساعة كانت قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل وابن المريضة مازال “باغي يفهم”. حاول استفسار الطبيب الجراح عن سبب رفض إدخال المريضة إلى المستشفى وإخضاعها للجراحة لكن الأخير ظل مصمما على موقفه الذي ضمنه في ورقة المريضة ذات اللون الأصفر. أحد الممرضين حاول الدخول بخيط أبيض عبر شرح موقف طبيب مستشفى ابن رشد, بحجة أن كلام الطبيب الذي فحص المريضة بالمحمدية ليس هو القول الفصل وأن الطبيب الجراح بمستشفى ابن رشد هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد ما إذا كانت هنية ستخضع لعملية جراحية أم لا. كلام الممرض لم يقنع أهل المريضة, الذين حيرهم رفض طبيب ميريزكو لما قرره طبيب مستشفى مولاي عبد الله بخصوص ضرورة إجراء العملية الجراحية بشكل عاجل. ” واش هاذو أطباء والخرين ماشي أطباء. واش هاذو مكملين قرايتهم والخرين يالله عندهم التحضيري” تقول زوجة محمد, التي بدت مصممة على عدم إعادتها إلى منزل الأسرة بحي البرادعة بالمحمدية بسبب تدهور حالتها الصحية, التي فرضت نقلها من المحمدية إلى العاصمة الاقتصادية على متن سيارة إسعاف. جيبوا البوليس الهرج والمرج فرض على عناصر الأمن الخاص استدعاء الحارس العام, الذي اكتفى بإبلاغ أهل المريضة بأن “اللي قالو الطبيب هو اللي كاين”, قبل أن يطلب استدعاء الشرطة. شكون اللي باقي تايخاف من البوليس يقول أحد أحد المواطنين, الذي طلب مع ذلك من ابن المريضة أن” يبرد الأعصاب ديالو”. “مابقاتش فبرد أخويا را تاتشوف الحكرة. والله اليوم ما نتفاك معاهم تايجيو البوليس وندير المحضر ديالي” يقول محمد, الذي أضاف “هنا كاين غير المحسوبية والوجهيات ولكن اليوم غادي نفاسروها”. بينما كان أهل هنية يجاهدون لإيجاد حل لوضعيتها كانت المرأة المسنة ملقاة على “باياص” بغرفة الفحص. من ملامحها وطريقة تفاعلها الهادئة مع المحيطين بها بدت المريضة غير مدركة لما يجري حولها مما زاد من غضب مرافقيها بمن فيهم زوجة الإبن. السيدة التي بح صوتها من كثرة الصراخ حملت المستشفى المسؤولية عما يمكن أن يحدث لوالدة زوجها “راها طايحة والله وماتت ما نتفاكو معاكم, والله ما نخرجوا من هنا اليوم…الناس تاتموت هنا. الناس ضايعة هنا وحتى واحد ما دايها فيهم”. انتفاضة جماعية انتفاضة أهل هنية تلتها انتفاضات أهالي مرضى آخرين. “خويا تايتفلاو علينا. باركين علينا بلاتي تسناو وشي حاجة ما كاينة” يقول شقيق مريض ظل يتلوى من شدة الألم وكله أمل أن يعاينه الطبيب على أمل إدخاله إلى غرفة العملية للتخلص من “المصرانة الزايدة”. بعد زمن غير يسير نجح حسن أخيرا في رؤية الطبيب, الذي طلب من ذويه اقتناء مجموعة من الأدوية من الصدلية تمهيدا لإجراء العملية. في قاعة العلاج بالمستعجلات لم يكن الوضع. ضحايا حوادث واعتداءات كانوا بدورهم قد ملوا من طول فترة الانتظار للتعالى أصوات الاحتجاج التي اختلفت حدتها بين اكتفى بهز رأسه للتعبير عن عدم رضاه على الوضعية, ومن رفع صوته عاليا لأنه “ما خايف من حتى واحد” كحال شخص اصطحب شقيقه لوضع الجبص بعد تعرضه لكسور نتيجة صدمه بدراجة نارية. بعدما مل من الانتظار شرع في الصراخ لعل وعسى أن يجدي ذلك نفعا ولسانه يردد. “ما كاين لا علاج لا والو… هاذ الناس ما تايحنوش فينا… ما مسوقينش لينا … حسبي الله ونعم الوكيل.. التوقيع و”الكاشي” “جيتي هنايا شافك الطبيب وصافي اللي قالها الطبيب هي اللي كاينة” هكذا خاطب الحارس العام محمد وشقيقه وزوجته الذين استوقفوه مجددا معتقدين أن موقفه ربما يكون قد تغير. المسؤول ذاته حاول مجددا الدفاع عن موقف الطبيب الرافض للاحتفاظ بالمريضة داخل مستشفى ابن رشد لإخضاعها للجراحة, قبل أن يضيف “هاذاك الطبيب اللي قال ليك خاصها تفتح أون ايرجونس يفتح ليها هو وايلا كانت عندو شي نية حسنة يعيط للطبيب ديالنا ويهضر معاه”. جواب زاد من غضب محمد الذي انتفض في وجه مخاطبه قائلا: “دابا واش حنا مواطنين ولا أشنو.. تانمشيو للمحمدية يسيفطونا لكازا . تانجيو لكازا يرجوعنا للمحمدية”. الحارس العام رد عبر استفسار ابن المريضة عما إذا كانت لم تخضع للفحص على يد طبيب اختصاصي “إيلا كان ما شافهاش الطبيب كولها ليا. ولكن الطبيب الجراح راه شافها اش بغيتي آخر. قال ليك ما غاتفتحش صافي ما غاتفتحش”. “أجي وايلا وقعات ليها شي حاجة”؟ سؤال محمد لقي جوابا سريعا من محدثه ملخصه أنه “إيلا وقعات ليها شي حاجة للمريضة الطبيب غادي يتحملب المسؤولية ديالو. ياك عمر ليك الورقة وسينا ودار الكاشي ديالو”. مفاجأة محمد كانت كبيرة بعد ذلك عندما اكتشف أن الطبيب الذي فحص والدته لم يضع اسمه وخاتمه على ورقة المريضة وهو ما أثار استغرابه ليصرخ قائلا “كان باغي يزرب علينا. نخرجوها وملي توقع ليها شي حاجة ما يعقلش علينا راه ما داير لاسيمتو لا الكاشي ديالو”. “واش نتوما تاتفلاو علينا. ديرو الراديو. ديرو هاذي. ديرو هاذيك وفي الأخير ما كاين والو” يضيف محمد ليرد الحارس العام بقوله ” “شوف أسيدي اللي كاين راه قالو ليك الطبيب إيلا بغيتي تدير الفوضى غادي نعيطوا للبوليس”. هذا التهديد لم يخف ابن المريضة الذي رد عليه بلغة واثقة: ” يالله عيط للبوليس. تحساب راسك غادي تخلعني أنا را تندافع على حقي. علاه مالي أنا ماشي مواطن. راسيدنا تايقول أن أي مواطن عندو الحق في العلاج وما غاديش تخلعونا بالبوليس”. نهاية مؤقتة حدة التوتر ارتفعت مع توالي الدقائق وتزايد عدد الوافدين على المستعجلات. أعداد المنتظريف ترتفع وعدد الأطباء بدأ يتناقص. “مشاو ينعسوا” يؤكد قريب أحد المرضى الذي بدا غاضبا وهو يعاين عدم وجود تناسب بين أعداد المرضى والأطباء. لم يعد أقارب هنية وحدهم من يحتجون ويصرخون بل انضاف إليهم آخرون عبروا عن استيائهم مما اعتبروه لامبالاة من طرف العاملين بقسم المستعجلات. طالبوا باحترام إنسانيتهم والإحساس بمعاناتهم وإن كانو مقتنعين على حد تعبير أحدهم بأنه “ماحاس بالمزود غير اللي مضروب بيه”. ارتفاع حدة الاحتجاجات دفعت الإدارة إلى تنفيذ تهديداتها باستدعاء الشرطة, التي حضر عدد من عناصرها بعد بضع دقائق. ما أثار ارتياح المرضى وذويهم أن الأمن لم يكمم الأفواه وترك “ولاد الشعب” يحتجوا ويطالبوا بالحقوق ديالهم”. في النهاية اضطر محمد وزوجته وشقيقه إلى الاستسلام للأمر الواقع. حملوا المريضة وأعادوها من حيث أتت في أحد منازل حي البرادعة في انتظار إعادتها اليوم الإثنين إلى الجناح 28 للحسم في مصيرها لتنتهي بذلك ليلة طويلة من ليالي مستعجلات ابن رشد أو “ميريزكو” كما يحلوا للبيضاويين أن يسموه. فهل ستتغير تفاصيل ليالي هذا المستشفى مستقبلا؟ هل سيصبح الخضوع للفحص والعلاج سهل المنال, أم أن دار لقمان ستبقى على حالها؟ يوسف بصور