أصبح من المسلمات، في هذه البلاد، انتشار الفساد والمفسدين برا وبحرا وجوا.. ولم يعد الأمر مقصورا على المشهورين وعلية القوم والمتموقعين في مراكز القرار، بل تعدى ذلك إلى المغمورين والموجودين في أسفل السلم الإجتماعي والمهمشين ماديا ومعنويا. ولم يعد الأمر يقتصر على الكبير، بل امتد إلى الصغير، ولم يعد وقفا على الرجال ، بل امتد إلى النساء.. وعم الفساد المعاهد والمدارس والجامعات والمعامل والنقابات والشركات ومواقف حراسة السيارات والمقاهي والجمعيات ودورالحضانة… لامفاضلة بين الفساد والمفسدين إلى الحد الذي أصبح مستساغا، بل ضرورة لتحريك دواليب الإقتصاد والسياسة والثقافة، دواليب المجتمع عامة. استوى الماء والخشب.. والإعلام، في هذا السياق، تحول إلى إعلان عن تطور الفساد، شكلا ومحتوى، مستفيدا من طرائق التكنولوجيا الحديثة، ومتحايلا على الأموات والأحياء، بجعل الأموات أحياء تزويرا وسطوا،وجعل الأحياء أمواتا بإمطارهم بسيل من وقائع الفساد حول هذا الأخير إلى مقطع- كما هو شأن القتل اليومي في بلاد العرب- سينمائي تعود عليه المتفرج، الذي أصبح مدمنا على متعة تجمع بين السادية والما زوشية. أخر إبداعات الفساد انتقاله إلى مستوى المأسسة، من جهة، والتنظير، من جهة ثانية. فالتسيب في هذا المجال، بعد اتساع خارطة الفساد، لم يعد مقبولا، أو مستساغا لدى الذين يمسكون بخيوط هذه الظاهرة مما اقتضى وجود المؤسسة القائمة على التنظيم والتقنين والضوبط القانونية ، فضلا عن تنظيم المردودية المتصاعدة لهذه الظاهرة. أما التنظير فقد انبرى له العارفون- ومعظمهم من النخبة العالمة- بخبايا هذا الميدان عن طريق التبرير والتأويل والمقارنة مع البلدان العريقة في الفساد، وتنظيم رحلات إلى بقاع شهيرة في هذا المجال لامتلاك الخبرة، وتكوين الأطر، وعقد اتفاقيات تبادل منتوج الفساد في كافة المجالات.. أما الفساد فقد وضع رجلا على رجل وكأن الأمر لايعنيه .. فالفساد ملح الطعام ..ومن قال إن عصيدتنا باردة ، فليضع يده فيها..