ابتسامتها الخفيفة، التي تضخ الحياة فتجعلها ضاجة في العينين والنظرات، كانت تتصدر الركح وتغمره. حضور صاحبة الثغر والنظرة المبتسمين كان قويا. ملأت الفضاء. عبقت روحها الزكية، فنفحت من طهارتها في المكان وغطت روائحها العطرة على ما عاداها من روائح ، حتى البخور والصندل تحول في الأجواء إلى مجرد رائحة خانقة وفقد من طيبه. كل من حضر، أحسها وكاد يلامس روحها. شموخ. عطاء. بذل. تواضع. تفاني. تقاسم. إيثار. أريحية.. كلها خصال اجتمعت في شخص امرأة استثنائية. حصدت الإعجاب والاحترام في حياتها، وحظيت بالتقدير والاعتراف بشموخ قامتها بعد مماتها. إنها الراحلة آسية الوديع، أو بالأصح “ماما آسية”، الذي لم يعد ممكنا للجانحين الأحداث تلفظه لقبا بعد رحيل صاحبته. لكنه سيخلد ذكرى امرأة وحيدة وواحدة من حيث طبيعة قضيتها ونضالها. أول أمس الخميس 20 دجنبر الجاري، بالمسرح الوطني محمد الخامس، كانوا كثرا، هؤلاء، الذين حجوا لتأبين الراحلة في أربعينيتها، يتقدمهم رئيس الحكومة، عبد الإله ابن كيران، ومستشارة صاحب الجلالة محمد السادس، زليخة نصري، التي تربطها بالراحلة علاقة رفقة طويلة وصداقة كبيرة. الأهل، الأبناء، الأقارب، الأصدقاء، الزملاء في مجالات المحاماة والقضاء والعمل الجمعوي والحقوقي، فاعلون في حقل السياسية.. الكل سجل الحضور.. وأتت بهم، لربما، الفرصة الأخيرة، التي قد يجتمعون فيها في مكان واحد ليتذكروا بشكل جماعي هذه السيدة الاستثنائية، التي حظيت بالإجماع حول نبل شخصها وعلو هامتها. الدمع تحجر في المآقي، بالرغم من أنه خنق صوت المستشارة زليخة نصري لما كانت تتلو الرسالة الملكية التي نأت عن الرسمية ونفحت منها مشاعر التقدير، وسلب منها القدرة على التحكم في مشاعر الحزن على فقدان الصديقة. وانهمر حارا على خدي الإبن، يوسف الشهبي، وهو يرثي الوالدة الحنونة، وأربك صوت الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، محمد الصبار، فملأه حشرجة وهو يَذْكُرُ ويُذَكرُ بمناقب “ماما آسية”، ووسم إلقاء رئيسة حكماء الهاكا، أمينة المريني، بالخفوت.. كانت الكلمات تتوالى ضمن فقرات الأمسية التأبينية، حبلى بالاعتراف والحب والحنين لفقيدة جُرْحُ غيابها الحديث لايزال مؤلما. مولودة مدينة النوارس، “الشحرورة” مثلما سماها محمد الصبار، وال”زاهدة” على حد وصف فلذة كبدها يوسف، الخالدة والشامخة بعطاءاتها ونضالها ونبل أخلاقها وإنسانيتها الطافحة، أسلمت الروح بالبيضاء، هي التي ترعرعت بسلا، وتم تأبينها بالرباط.. إنها ابنة هذه الأرض، إبنة هذا البلد، الذي تنفست هواءه مثلما تنفست عشقه بكل عيوبه ومحاسنه. تعالت على عيوبه بل وساهمت من حيث اختارت المساهمة في تقويمها في غياب إمكانية القضاء عليها جذريا لإيمانها الراسخ واقتناعها العميق بأن الأمل في الوطن يتطلب العناية مثل زهرة نادرة تحتاج لرعاية خاصة. لذلك، اختارت الرهان على قضية تحسين وضعية النزلاء الأحداث في مراكز التهذيب والإصلاح لتجنيب الوطن أبناء جاحدين وحانقين وعاقين. رهانها كان كبيرا. لكن قوتها وعزيمتها واستماثتها كانت أكبر. صوتها الذي يأتي خافتا حينما تكون بصدد الحديث عن الذات، من فرط التواضع والحياء والعفة، يصبح قويا وعالي النبرة وشديدها حينما تتحدث عن واقع الأحداث الجانحين وأوضاعهم المزرية. إنهم قضيتها. إنهم محفزها على العطاء والعمل، هي التي كانت تقتنع القناعة الراسخة أن “الأنانية الكبرى هو أن يعيش المرء من أجل نفسه ومن أجل سعادته الشخصية فقط” .. ولم تكن أنانية.. فقد سخرت تكوينها وتجربتها وخبرتها القانونية هي المحامية التكوين لتمنح الأحداث الجانحين فرصة التصالح مع ذواتهم والتغلب على جنوحهم والإيمان بالوطن وكينونتهم المواطنة. هذه القضية، التي استأثرت بكل وقتها وقواها .. سلبتها من أعز ما تملك، من ذويها، وخصوصا نجليها يوسف وغسان. هذه القضية، التي دعا يوسف كل محبي الراحلة والمؤمنين بنبل القضية ومشروعيتها، حمل المشعل ومواصلة العمل حيث توقفت “ماما أسية”. لتنام روحها نومها الأبدي قريرة .