تدريس التفكير المركب في العالم بقلم: منير الحجوجي يتوقف كسب رهان تدريس الفكر المركب Pensée complexeأولا على قدرتنا على فضح فكر يكثف داخله مجمل الأمراض الابستمولوجية الناسفة أو على الأقل المضادة لفهم العالم.. يتعلق الأمر بالنزعة الاختزالية Réductionnisme التي ترجع البنيات و الظواهر إلى واحد من أبعادها متناسية لعبة التفاعلات و التداخلات التي تحدث على أكثر من مستوى تنظيمي داخل و بين تلك البنيات و الظواهر.. نجد هذا النوع من الفكر المشوه و المشوه في كل القطاعات الحيوية للمجتمع، في الدين الذي تختزله الدولة/الأمة في مجموعة من الطقوس «النهائية»، في مجال الفلسفة الجماعية «العفوية» التي ترسم بشكل بوليسي صارم الحدود بين السوي والمرضي، الشرعي واللاشرعي، الناجح والفاشل، في الاقتصاد الذي يحبسه جهابذة مشبوهون في تدابير «لبرالية» طبقية يقدمونها على أنها تخدم الأمة كلها، في السياسة حيث يمارس البعض لعبتهم الاستبدادية بحسبانها سبيلنا الأوحد ل«حراسة» الوطن و«تأمين عيشنا»، في الحقل التربوي الذي يوجهه خبراء لانعرفهم نحو تدريس المعارف والعلوم «النافعة» باعتبارها العلوم «النهائية» للحياة، وأخيرا نصطدم بالاختزال في الابستمولوجيا، أو في مجال إنتاج المعرفة، حيث يروج «علماء النسق» من كل نوع لفهمهم باعتباره الفهم الطبيعي و الكوني والنابع من الأشياء ذاتها.. يمكننا أن نجني منافع كبرى في مطلع هذه الألفية الصعبة إذا ما قررنا الانفتاح على بعض من المقترحات الواعدة للفكر المركب.. تربويا، علينا، وكيفما كان تخصصنا، أن ننتبه إلى أنه لم يعد من الممكن تدريس العالم الحالي- عالم التداخلات المعقدة والمتنامية بين الفردي والعائلي والوطني والقاري والكوكبي- بأدوات الاختزال والتبسيط.. لفهم الذات والعائلة والوطن والقارة والعالم والكون لا بد لنا من فكر يكشف عن التفاعلات المثيرة والمتجددة باستمرار التي تحدث بين كل هذه الأنساق.. عدو الفكر المركب هو الاختزال والحجب والكبت، كبت لعبة العلاقات والاشتباكات خدمة لأجندة ابستمولوجية/سياسية مشبوهة، أجندة أولائك الذين لا يخدمهم أن نفتح أعيننا على كل ما يمر وينمو ويهدد بالتفجر من وراء ظهورنا.. يدعونا الفكر المركب، وبقوة، إلى ممارسة أقصى ما يمكن من الانفتاح والتحرر الابستمولوجي.. التحرر من ماذا؟ من الفعل الأول الناسف للفهم الذي هو الانغلاق والغلق الابستمولوجي.. إن معرفة منغلقة على ذاتها لا قيمة لها على الإطلاق.. وكما يقول جيل دولوز، فالمعرفة الخالصة لا توجد في أية معرفة، ولا في مجموع المعارف، ولكن في ما ننتجه ونبدعه عندما نطور شبكات معرفية تكاملية لفك ألغاز ما يؤرقنا و يستعصي على فهمنا.. المعرفة الخالصة هي التي تتجول بين أنساق ومركبات وأحداث العالم في محاولة حثيثة لفهم التعالقات المترامية بينها.. هل يمكن مثلا أن نفهم البنية الذهنية الجرثومية الجديدة للمغاربة دون ربطها بالفانتازمات الكبرى للعالم، فانتازمات الاستهلاكات خارج الضوابط الإنسانية المنذرة الفعالة؟ يتطلب التفكير المركب إذن التنقل الدائم بين الأنساق. لا وجود لظاهرة واحدة تحيى في عزلة. لا وجود، مثلا، لمشكل/تصدع عائلي أو فردي واحد خارج الديناميات الاقتصادية والسياسية أو الدينية. مهمة الفكر المركب هي كشف الاختراقات المتبادلة بين الأنساق مهما بدت متباعدة فيما بينها.. لذلك فهو يظل، كما يقول مفكر التعقيد الأول ادغار موران، جوابنا الأهم على تعقد وتداخل والتباس المشاكل الفردية والمحلية والوطنية والقارية و الكوكبية.. أكرر: كل الأشياء و الظواهر فوق كوكبنا مرتبطة في ما بينها بعلاقات لا يمكن بأي حال من الأحوال نفيها تحت ذريعة تبسيط وتقريب الأمور للناس. نعم للتبسيط ولكن ليس على حساب الفهم المركب والشمولي والدينامي للقضايا. إن الربط و الوصل هو ما يجب تدريسه، ومنذ الصغر، حتى يكبر الأطفال وهم واعون تماما بأن كل شيء يلمسونه موصول بمجموع الأشياء الأخرى القريبة والبعيدة، وبأن كل تغيير في وضع أو هوية أو لون أو تركيب أي شيء مهما كان «تافها» لابد وأن يؤثر في وضع وتوازن ولون وتركيب كل الأنساق الأخرى. أن ندرس الأطفال ما يمكن أن نسميه الهوية العلائقية للأشياء، وأن نفتح أعينهم على ما يشد و يلحم مكوناتها هو وحده القادر على أن يخلق لديهم الوعي ب «جدية» العالم الذي يلمهم و يلمنا، هو القادر على خلق أجيال منتبهة بقوة الى فضائل الحياة من حولنا، هو القادر على إحداث التغييرات الراديكالية في مجتمعاتنا..