أنظمة الاستبداد تقتل وتقتل بإفراط. إنّها تعريفاً تقتل أكثر كثيراً ممّا تقدّم خدمات للمواطنين: ممّا تعلّم مثلاً أو تطبّب أو تنشئ بنى تحتيّة… هي تفعل هذا نظراً إلى انعدام التعاقد بينها وبين شعبها ومحكوميها، فهي تحكمهم بالقوّة المحضة وبالسيطرة الجلفة. يتبدّى هذا في الأولويّة المطلقة لرجل الأمن والجيش على رجل السياسة الذي لا وجود له أصلاً، مثله في ذلك مثل السياسة الممنوعة. هذا هو المشهد السوريّ الذي يتّخذ اليوم شكلاً هستيريّاً في ممارسة العنف والجريمة. إلاّ أنّ هذه «الثقافة» حين تخرج من حدودها الوطنيّة، تحمل معها هذه الممارسة وتعمل على نشرها. فكيف حين يكون هذا الخارج، وهو هنا لبنان، مرعيّاً بعقليّة إمبراطوريّة تريد له الإلحاق والاستتباع؟ يضاعف هذا الإغراء بالقتل أنّ الخارج المذكور ملوّن ومتنوّع. فهو يواجه نزعة القولبة والإخضاع بمروحة من الولاءات الأهليّة والدينيّة والمذهبيّة والوطنيّة، كما يواجهها بما يفد من ذاكرة الحرّيّة ونوستالجياها: لقد كنّا ذات يوم أكثر حرّيّة وأشدّ تنوّعاً. وهذا التركيب الغنيّ يصطدم بمصدر آخر للقتل: إنّه فرض عقيدة مقدّسة وحقيقة وحيدة على المجتمع: «المقاومة» في الحال التي نتناولها. أكثريّة المجتمع لا ترى هذا الرأي، ولا تبدي الاستعداد لدفع أكلافه الباهظة، فضلاً عن أنّها لا تُستشار فيه رغم اتّصاله بحياتها وموتها. لكنّ تلك الأكثريّة ينبغي أن تُحمل حملاً على الأخذ بهاتين العقيدة المقدّسة والحقيقة الوحيدة. كيف يتمّ ذلك بغير الإرهاب والقتل، معطوفين طبعاً على التخوين والتشهير والقتل المعنويّ؟ اللقاء الملوّث بين العقيدة والعبوة، بين «الحقيقة» المزعومة ومكاتب المخابرات، هو ملكوت القتل وفردوسه. لهذا يكون سخيفاً التفكير في الحكومات والبرلمانات والانتخابات حين تكون مصادر القتل على هذه الخصوبة، وحين تكون القدرة على تنفيذ القتل متاحة بل مشاعة على النحو القائم في لبنان منذ 2005 على الأقلّ. فكما أنّ الحياة السياسيّة لا تتّسع للقتل فإنّ القتل لا يتّسع للحياة السياسيّة. إنّهما نقيضان يستحيل أن يتعايشا، ولا ينبغي أن نُظهرهما كأنّهما متعايشان. وهذا ما يدفع إلى موقف أكثر جذريّة وأشدّ أخلاقيّة من إسقاط حكومة نجيب ميقاتي أو سواه. ذاك أنّ سلطة القتل الخفيّة هي السلطة الفعليّة في آخر المطاف، لا تعيق عملَها أكثريّة نيابيّة (غير متوفّرة أصلاً) أو حوار أو تشكيلات حكوميّة من أيّ نوع. يقود ذلك إلى تفكير مركّب يستحقّ أن يُبذل في سبيله بعض الجهد الفكريّ: كيف يمكن الجمع بين مغادرة «الحياة السياسيّة» بسائر مؤسّساتها، وبين إبقاء التعبئة السياسيّة والمدنيّة ضدّ القتل، من دون أيّ انجرار إلى العنف؟ كيف يمكن ذلك في انتظار أن يكتمل تحوّل الجوار السوريّ الذي يلعب دور مؤسّس القتل وراعيه؟ فالتاريخ اليوم تُكتب سطوره في دمشق وحلب وإدلب ودير الزور. هناك فقط، لا في الانتخابات اللبنانيّة وألعاب الوجهاء الصغار ووضاعاتهم، يؤسّس لقتل القتل. عن «الحياة اليومية»