للتخفيف، ربما، من حدّة الانتقادات التي وُجّهت إلى لجنة نوبل النروجية، مانحة جائزة السلام الرفيعة، لم يجد الاتحاد الأوربي، الفائز بها لهذا العام، أسرع -وأسهل، أيضا- من هذا الإجراء الذي تبناه مؤتمر وزراء خارجية الاتحاد المنعقد في بروكسيل مؤخرا: فرض حزمة العقوبات رقم 19 ضدّ «النظام السوري والمتعاونين معه»، فأصبح عدد هؤلاء 181 شخصا، بين ضابط أمن أو مسؤول أو رجل أعمال شريك أو حليف؛ فضلا عن 54 هيئة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، سورية وأجنبية. ولكي تبدو اللائحة الجديدة أكثر صرامة (في ناظر معدّيها، أو مستشاريهم وناصحيهم من بعض أوساط المعارضة السورية)، فقد ضمّت، إلى جانب ما هبّ ودبّ من أعضاء الحكومة الحالية، اسم السيدة رزان عثمان، زوجة رامي مخلوف (التي أخطأت اللائحة في كتابة اسمها!). وقبل إقرار هذه العقوبات الجديدة، كان وزراء خارجية الاتحاد الأوربي قد تناولوا طعام الغداء مع سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، فلم يفلحوا في تليين عريكته (كما يُفهم من التصريحات العلنية)، لكنهم فهموا منه أن روسيا تأخذ بعين الاعتبار الجدّي مختلف التطورات على الأرض، السياسية والعسكرية، السورية والإقليمية والدولية (كما أشارت بعض التسريبات الصحفية). أما بعد الغداء، وبعد الاجتماع، فقد أصدر الوزراء ما أسموه «استنتاجات» حول الوضع السوري، بدا وكأنهم لا يكتشفون، متأخرين، تحصيل الحاصل في مضامينها، فحسب، بل يتابعون الوقوف مكتوفي الأيدي أمام ذلك الاكتشاف، أيضا؛ ويواصلون، ثالثا، إنتاج واستهلاك وإعادة إنتاج اللغة الخشبية ذاتها، التي تقسم سورية (أو «الاتحاد السوري»، كما قد يقود اقتفاء أثر الرطانة الاصطلاحية للاتحاد الأوربي) إلى صفوف شتى: النظام، والمدنيين، و«الأقليات الدينية»، و«الأعمال الإرهابية»،... على أن يبقى «الشعب السوري» مفهوما غامضا، مجرّدا، ميتافيزيقيا،... «الاتحاد الأوربي يقف مع الشعب السوري في نضاله الشجاع من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية»، يقول مستهلّ الاستنتاج الأول، قبل أن ينتقل إلى وصف طرائق استخدام القوة من جانب النظام السوري، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة والقصف الجوي، الأمر الذي «لا يمكن إلا أن يتسبب في تفاقم العنف وتعريض استقرار المنطقة بأسرها للخطر». لاحظوا، هنا، أن منبع الخطر الجدير بالذكر في ناظر هذا الاستنتاج، ليس آلاف الضحايا من المدنيين السوريين، ودمار البلد، عمرانا واقتصادا واجتماعا، بل «استقرار المنطقة»، الذي ينبغي أن يضم استقرار إسرائيل بطبيعة الحال. فما أولويات الاتحاد الأوربي، إزاء هذه الحال؟ «إنهاء القمع، إيقاف العنف كاملا، تقديم المساعدات الإنسانية لجميع المحتاجين إليها، والحيلولة دون التسبب في مزيد من انعدام الاستقرار الإقليمي، والتحضير لمرحلة ما بعد الأزمة»، يقول الاستنتاج. غير أن وضع جميع هذه العناصر في سلّة واحدة، والإيحاء بإمكانية المصالحة بينها، أو التعامل مع تعقيداتها وكأنها لا تتناقض وتتضارب بل تتكامل وتتوافق، هو -في نهاية المطاف، وعند التماس الحصيلة العملية- أشبه بالمساواة بين القاتل والقتيل، والقوي المسلّح حتى النواجذ بالضعيف الذي لا يملك إلا السلاح الفردي الخفيف في تسعة أعشار أمثلة التسلّح، حتى داخل كتائب «الجيش الحرّ» على اختلاف مواقع انتشارها ومصادر تسليحها. فكيف يمكن «إيقاف العنف كاملا»، بين الجلاد والضحية في تعبير أدقّ، إذا كان الطرف الأوّل يستخدم، باعتراف الاتحاد الأوربي ذاته، أثقل الأسلحة، فلا يقصف من الجو بقنابل «مباحة» دوليا، بل ببراميل متفجرة وقنابل عنقودية؛ والطرف الثاني، وغالبيته الساحقة من المواطنين المدنيين العزّل، لا يملك إلا استقبال تلك الآلة العسكرية الوحشية؟ وفي طرائق التدمير البربري التي تتعرض لها مدينتا حلب أو دير الزور، مثلا، كيف يمكن أن تتساوى القوة النارية للنظام، الجوية والبرية، مع مقاوِمات أرضية بسيطة وبدائية؟ وإذا صح أن هذه التي تقصف هي «الحكومة»، حسب توصيف الاتحاد الأوربي، فكيف تصح مقارنتها بأي «عنف» آخر صادر عن جهات «غير حكومية»؟ وكيف يتفوق الحاكم، في مقدار التخريب والتدمير والحقد الأعمى والاستهانة بالبشر والتاريخ والعمران، على كل «محكوم»؟ ومن جانب آخر، إذا كان الطرف الأول قادرا، ومصمما، على تهديد الاستقرار في المنطقة (كما في مثال المناوشات على الحدود السورية-التركية، والسورية-اللبنانية)، لأن هذا الخيار ليس تكتيك هروب إلى أمام في حساباته، بل استراتيجية نجاة قصوى؛ فكيف للطرف الثاني أن يُوضع معه على قدم المساواة، من حيث المسؤولية عن زعزعة استقرار المنطقة، فيُطالَب بالحفاظ عليها؟ أليس من الواضح أن التعبير ذاته، «استقرار المنطقة»، ليس غائما وملتبسا وحمّال أوجه، فقط؛ بل هو المبدأ الناظم الذي اتكأت عليه غالبية الديمقراطيات الغربية، فضلا عن جميع الإدارات الأمريكية، في التواطؤ مع الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، وفي مساندتها سرّا وعلانية، والاعتماد عليها لتنفيذ أقذر أعمال الاعتقال والتحقيق والسجون، بالنيابة عن الأجهزة الأمنية الغربية؟ هذا القلق الأوربي من التأثيرات الخارجية ل«الأزمة» السورية يقود إلى الاستنتاج الثاني، أي انتقال العنف إلى الجوار، كما في قصف النظام السوري لبلدة أكشاكال التركية الحدودية، وهذا ما «يدينه الاتحاد الأوربي بقوة». وهنا أيضا، تبدو الرطانة الأوربية وكأنها تفترض أن قوة النظام النارية وأسلحته الثقيلة واستراتيجيته في نقل التوتر إلى الجوار يمكن أن تُلام، على قدم المساواة، مع أي صنوف أسلحة، فقيرة ومتواضعة، يمتلكها المقاوِم السوري، من حيث زعزعة استقرار المنطقة. ومن المفيد الانتباه، هنا، إلى الانتقائية الفاضحة التي تعتمدها أدبيات الدبلوماسية الأوربية في تصنيف «الجوار»: هو علاقات الدول ذات السيادة، حصريا، بين سورية وتركيا، أو سورية والعراق، أو سورية ولبنان؛ ولكنه ليس «الخدمات» المختلفة التي يقدّمها «الحرس الثوري» الإيراني، أو «مجاهدو» مقتدى الصدر، أو «حجاج» ومقاتلو «حزب الله»! الاستنتاج الثالث يواصل إمساك العصا من منطقة وسطى، لا تلغي مع ذلك إمكانية التأرجح بين الحق والباطل، أو مبادلة هذا بذاك، أو التلويح بالشيء ونقيضه، في آن معا، إذ «بينما يذكّر بأن المسؤولية الرئيسية عن الأزمة الراهنة تقع على عاتق السلطات السورية»، فإن الاتحاد الأوربي «يحذّر ضدّ المزيد من العسكرة وتجذر الصراع والعنف الطائفي الذي لا يمكن إلا أن يجلب المزيد من المعاناة لسورية، وينذر بأثر مأساوي على المنطقة». أليست هذه ذروة في انتهاج حقّ، لا يُراد به إلا باطل الأباطيل؟ ألا يعود هذا الاستنتاج إلى الدائرة المفرغة ذاتها التي انزلق إليها الاستنتاجان السابقان، لجهة توزيع المسؤولية على الضحية (بعد التنويه باتهام الجلاد، غنيّ عن القول!)؛ واعتبارها مشارِكة في سلسلة الخيارات الأقذر التي اعتمدها النظام لكسر الحراك الشعبي، وتعطيل الانتفاضة، من العسكرة إلى الحشد الطائفي، مرورا بارتكاب كل وأية ممارسة تجبر الأهالي على التسلح دفاعا عن النفس؟ غير أن الاستنتاج الثالث هذا يذهب أبعد، إلى درجة تبني واحدة من أشد ذرائع النظام ضلالا وتضليلا: «الاتحاد الأوربي يعبر عن القلق حول حماية المدنيين، وخاصة الجماعات المستضعَفة والجاليات الدينية»! مَن يهدد المدنيين، في المقام الأول؟ ومَن استخدم الذخيرة الحيّة ضدّ المدنيين، وقتل المتظاهرين العزل إلا من صدورهم العارية، منذ الساعات الأولى لتظاهرات حوران؟ وهل نجم، أو ينجم، أي تهديد آخر إلا عن مبدأ الدفاع عن النفس؟ ومتى هُدّد أمن الأقليات الدينية، أو أية جماعة مستضعفة، أو حتى قوية متنفذة، في أي من المناطق التي لم تعد تخضع لسلطة النظام؟ وباستثناء حالات فردية محدودة للغاية، واستثنائية تماما، مَن يمارس الإعدامات الميدانية وانتهاك الأعراض ونهب الممتلكات وتطبيق سياسة الأرض المحروقة؟ لافت، إلى هذا، أن أسطوانة «الإرهاب»، التي شُرخت مرارا وتكرارا حتى باتت أشبه بترهات مكرورة مستهلَكة جوفاء، تُعزف مجددا في هذا الاستنتاج الثالث، وضمن سياقات وثيقة الارتباط بمسائل حماية الأقليات والمستضعفين، ومسائل التسلّح، ومسائل الديمقراطية وبناء المستقبل السوري، وكأن أيا من هذه تستدعي سواها بالضرورة، ضمن منطق صوري، مطلق ومحض ومسلّم به. يقول نص الاتحاد الأوربي: «إنّ اشتداد العنف والسلسلة الراهنة من الهجمات الإرهابية تُظهر الحاجة الماسة إلى انتقال سياسي يلبّي المطامح الديمقراطية للشعب السوري، ويجلب الاستقرار لسورية. وفي هذا الصدد، يعرب الاتحاد الأوربي عن قلقه العميق حول تدفق الأسلحة المتزايد إلى سورية، ويدعو كلّ الدول إلى الامتناع عن إيصال السلاح إلى البلد». هنا، مجددا، تتساوى القنابل العنقودية مع بندقية الكلاشنيكوف؛ وتستوي في الملامة طائرة ركاب تحمل للنظام معدّات عسكرية معقدة، وفتاكة، مع ذخائر أوّلية يغنمها «الجيش الحرّ» بعد معركة دامية مع عسكر النظام؛ كما أن «الإرهاب» يبدو تهمة لصيقة بكل، وأي، فريق آخر... ما خلا أجهزة النظام! يبقى أن الاستنتاج الأطرف (الذي لا يأتي مستقلا، مع ذلك، بل يذيّل الاستنتاج الأوّل) فهو هذا الاكتشاف الخارق: «يشدّد الاتحاد الأوربي على وجوب استبعاد أولئك الذين سيتسبب وجودهم في نسف الانتقال السياسي، وأن الرئيس الأسد، ضمن هذا الاعتبار، ليس له مكان في مستقبل سورية»! تخيلوا، مثلا، أنه -بعد أكثر من 39 ألف قتيل، بينهم أكثر من 2500 طفل، و2900 امرأة، و3600 عنصر من عساكر النظام، و1067 قضوا تحت التعذيب، و76 ألف مفقود، و216 ألف معتقل، و348 ألف لاجئ...- يمكن أن يكون للأسد، أو أي من رجالاته، مكان في سورية المستقبل! ألا يستحق الاتحاد الأوربي جائزة نوبل، خاصة، على هذا الاكتشاف العبقري، الذي استغرق 19 حزمة عقوبات، والحبل على الجرّار؟ دار حرب هي سورية، تقول خلاصة مقاربات الاتحاد الأوربي، الذي شاءت لجنة نوبل النروجية (غير العضو في الاتحاد، مع ذلك) أن تسمّيها دار سلام... تماما على غرار نوبل السلام التي فاز بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وهو القائد الأعلى لجيوش تخوض حربين في آن معا، العراق وأفغانستان، وتحتلهما، وتقيم قواعد عسكرية في عشرات البلدان الأخرى. صحيح أن جميع الدول الأوربية تعتبر معركة واشنطن ضد الإرهاب معركتها أيضا، والبعض يذهب إلى حد القول إن البيت الأبيض يخوض الحرب بالنيابة عن «العالم الحرّ» بأسره؛ وهذه صلة أولى بين نوبل أوباما ونوبل الاتحاد الأوربي. إلا أن طبائع حروب التبادل تظل صحيحة أيضا، وليس من السهل أن تكتفي واشنطن بغنائم سياسية من وراء الحروب، وتترك المغانم الاقتصادية للأوربيين. وهذه، بعبارة أخرى، صلة ثانية بين الجائزتَين، ولكن على صعيد دار الحرب التي يمكن أن تنشب في أي يوم، تماما كما اشتعلت مرّتين من قبل، وكان أوارها أدهى وأمرّ!