الفاجعة التي ظل السكان يستبعدونها من حياتهم اليومية.. لم تتأخر طويلا.. طفلة صغيرة في الرابعة من العمر تلقى حتفها تحت عجلة شاحنة، فيما التهديد لازال متواصلا لأرواح المارة .. حادث أعاد أسئلة وجود عشرات من مستودعات بيع وصنع مواد البناء، وسط الدور السكنية.. عن طبيعة الرخص المسلمة لها، ودفتر تحملاتها.. ومدى احترامها لشروط السلامة، والمحافظة على البيئة..؟ «ملي تقتلات البنية.. ولا الجو مكهرب، الشيفورات والروموكات مابقاوش كيبانوا ..» . يقول عبد الله أحد سكان الحي بنبرة غاضبة، بينما كان وبمعية مجموعة من الشباب، في ذلك المساء، منهمكون في نقل أثاث العزاء الذي أقيم بالقرب من بيت الضحية ليلة الفاجعة. يوم واحد من مراسيم الدفن كانت المفاجأة. اختفاء الشاحنات المتوسطة و«الروموكات» الثقيلة من الحي نحو وجهة مجهولة. أصوات محركاتها ولا منبهاتها المزعجة لم تعد تسمع كالسابق. لكن المتاريس المكونة من الأحجار وبقايا مواد البناء، لازالت تملأ الطرق المتربة المحفرة لقطع كل من شارع طارق بن زياد المحادي للحي و المعروف بشارع الساقية أو الفوارات. « الجميع يتوجس من الوضع، السلطات حضرت بقوة وتوقعت أن ينفجر الوضع في أية لحظة.. » يضيف عبدالله بحذر. هذا الأخير رافقنا في جولتنا لمعاينة عدد من المستودعات المتوارية بين الأزقة والطرقات الضيقة. بتمارة .. أحياء عديدة بالمدينة لاتحمل إلا الإسم. « ماعرفناش فين هيا السكنى من ديبوات ديال البني فالحي..» . من هذه الأمثلة حي لولادة الخشانية ..أو حي القدس أو الفوارة بتمارة، من التجمعات السكنية التي كانت إلى عقد قريب، مجرد مساكن هامشية لاتتوفر فيها أبسط شروط العيش. عملية إعادة هيكلة جزء منها داخل مدينة تعتبر ثاني مدينة صفيحية بعد البيضاء زرع قليلا من الأمل بين القاطنين. فالزائر يفاجأ بأكوام متناثرة من الرمال، والياجور الأحمر المنتشرة في كل مكان. أسوار من القصدير، والجدران العالية، تحيط بمستودعات بيع مواد البناء.« إنهم يحاولون إخفاء وضع، سمته الفوضى وعدم اكتراث بمصائر القاطنين بجوارها ». أصحابها يجتهدون في إخفاء مابداخلها. العمال القادمون غالبا يأتون من مدن بعيدة. يعملون لأزيد من عشر ساعات في اليوم. معظم غير مصرح بهم في الصناديق الاجتماعية. هم لايترددون في اتخاذ، سقوف البيوت المشيدة من « الطوب والياجور» بشكل عشوائي، مكانا لسكناهم. « أصحاب المستودعات هنا يعتمدون بشكل كبير على جلب مختلف المواد سواء الرمال، والأسمنت من مدن القنيطرة والرباط، والبيضاء والصخيرات. هم لايكتفون بجلبها في شاحنات صغيرة، بل يلجؤون إلى (الروموكات) لنقلها بكميات كبيرة«. انتعاش حركة البناء بالمدينة، ساعد في تزايد نشاطهم هنا. لكن وأمام هذا النشاط المتسارع، يبرز الوجه البشع، لعينة من هذه ( الديبوات ). منها عدم احترامها لأدنى شروط السلامة، رغم الاحتجاجات المتكررة للقاطنين.. « راه ديما كنا كنطالبوا بحلول، وكنحدروا من شي مصيبة.. » يقول سعيد. كان غاضبا وهو يتذكر تفاصيل قصة اليوم الأسود في تاريخ الحي.. مصرع طفلة، وفرار المسؤول عن الحادث.. واستمرار نفس الأخطار في وجه القاطنين. بابا « هبة » ماتت.. صباح يوم السبت تاسع والعشرين من شهر شتنبر الماضي. كانت الساعة تشير إلى الثامنة. ضوضاء، وصراخ قوي كانا يسمعان من بعيد. نساء وشباب الحي يهرولون نحو أحد البيوت بالحي.« راه كاميو لي قتلها راه هرب ..» يردد بغضب بعض المتحلقين حول الجثة بالقرب من كومة من الأحجار بقارعة ( طريق ) مؤدية إلى مستودع الياجور . كانت «أقدار هبة». الطفلة الصغيرة التي لن تعانق لعبها بروض الحي بعد تلك اللحظة. لن تسمع ضحكتها وصوتها وسط بيت أسرتها الصغيرة. استيقظت في ذلك اليوم على غير عادتها مبكرا. غادرت في غفلة من إخوتها فناء البيت المتهالك للعب. لكن فرحتها البريئة، سرعان ما اغتالتها العجلات السوداء لشاحنة. « بابا.. بابا .. هبة .. ماتت » تصرخ شقيقة الضحية وهي تتأملها غارقة في دمها. وقفت بجوار جثتها وبكت بألم. كانت تعلم أن نداءها على الأب الغائب، مجرد استغاثة متأخرة، فهذا الأخير كان مسافرا رفقة الأم عن المنزل. تقدم إليها شقيقها هو الأخر. كان بدوره تحت الصدمة استفسرها عن أسباب الحادث . « إنها شاحنة لنقل مواد البناء.. اخترقت الزاوية الضيقة، بسرعة قبل أن تدهس الطفلة..». اختفت الشاحنة عن الانظار. ومعها اختفت الحقيقة التي لازالت تورق أسرة الضحية إلى يومنا هذا. نقلت «هبة» إلى المستشفى المحلي. لكنها فارقت الحياة لحظات قليلة وهي في طريقها إلى المركز الجامعي السويسي بالرباط. قوة الاصطدام وإصابتها بكسور في مختلف أنحاء جسدها الصغير كانا كافيين لتلفظ «هبة» أنفاسها دون أمل في النجاة قبل وصولها إلى المركز الجامعي السويسي. ساعات، وفيما أجواء الحزن الغضب تعم الحي. كان شبابه و عدد من السكان الأخرين يتقاطرون بعد تقديم العزاء لأسرة لتنفيذ احتجاجهم. في البداية قاموا بوضع متاريس من الأحجار لقطع شارع طارق بن زياد المحاذي للحي و المعروف بشارع الساقية او الفوارات. ثم شرعوا في ترديد شعارات منددة بدخول الشاحنات للحي « هذا عار هذا عار السكان في خطر». « باراك من هاد المصيبة ديال الكاميونات..» يقول الغاضبون الذين لم يكتفوا بذلك، فقد طالبوا السلطات بالتحرك وإغلاق مستودعات مواد البناء العشوائية بالحي. شكاياتهم المتكررة للجهات المعنية تشهد بذلك. بعدها تحركت لجنة من العمالة الحي زارت الحي وعاينت الوضع « كالوا لينا غير كونوا هانيين .. غادي نعالجو الأمر.. ونحيدو الضرر ..» يقول أحد القاطنين بتفاؤل حذر. غضب وتطمينات… لاخماد الغضب المشتعل في ذلك المساء. حضر رئيس أمن المنطقة بعد فترة. تجمع شهادات القاطنين . حضوره، كان كافيا لاقناعهم بوقف احتجاجاتهم. المسؤول الأمني لم يكتف بتقديم وعد للمتظاهرين بالانسحاب، بل لقد أخبرهم أن عامل الاقليم سيوفد لجنة لزيارة الحي والمستودعات للوقوف على حجم الضرر. أحد السكان علق باستغراب.. « ليست هذه المرة الأولى التي يتخرك فيه المسؤولون.. للأسف، لقد حضرت لجنة في الأسبوع الماضي للحي قبل وقوع الحادثة، لكن ليس لوقف الخروقات، بل فقط للتأكد من جودة بعض مواد البناء التي يتم تصنيعها في عين المكان..». يومان بعد الحادث، لاشئ قد تغير.. استمر نفس الاحتقان بالحي . مجموعة من عناصر الأمن لازالت ترابض بالأزقة ، ومقدمة الشارع المؤدي إلى مكان الحادث « إنهم هنا تحسبا لحدث ما.. ». وجودها تقول شهادات الغاضبين، ليس لمنع الشاحنات من ولوج الحي، بل لتحرير الطرق من المتاريس والأحجار ، ومن غضب لم تهدأ فورته بين السكان. فاجعة موت الطفلة كانت كافية ليتحول الحي الهادئ إلى بركان يغلي، احتجاجات وشعارات لاتتوقف، ولافتة تقتسم الفضاء الغارق في حزن عميق أصاب الجميع. كتبت عليها عبارات الاستنكار «بعد لحظات، لاحت من بعيد مجموعة من النسوة، كن يحملن في قلوبهن حزنا، وغضبا، ولسان حالهن لايتوقف عن تقديم العزاء للأب. هذا الأخير قال بيأس .. « كنت مسافرا في ذلك اليوم، إلى مدينة سيدي بنور، عندما أخبرت بالحادث، لم أيأس من إمكانية انقاذ حياتها .. بعد نقلها إلى المستشفى المحلي » هكذا وصف بداية تفاصيل الفاجعة، قبل أن يستطرد، وعيناه شاردتان، في اتجاه مستودع البناء المتكأ على منزله « ماتت فالسويسي، الضربة كانت قاسحا، ماعرفناش شكون لي ضربها أوهرب ». أحد القاطنين من جيران الطفلة، انتفض من مكانه، وتساءل باستغراب شديد « كيف يعقل أن تدهس الشاحنة الطفلة الصغيرة، أمام باب منزلها، ويختفي السائق.. بأعجوبة.. أين هو الأمن؟». المستودعات والسكان .. التعايش المستحيل بالخشانية، 1 و 2 أو مايعرف بحي القدس يسود وضع خاص منذ سنة 1986. « ماعرفناش كيفاش بداو كيخدموا بهاد الطريقة .. ولاكيفاش التوسعوا..» تجمع تصريحات السكان القاطنين بجوار بيت الضحية. فبسرعة تحولت جل المساحات الفارغة بين الأزقة، وبجوار المنازل، والدور القصيديرية، إلى أمكنة قارة ، لصنع، وبيع مختلف أنواع مواد البناء . هنا بهذه الفضاءات، يتم اكتراء البقع الفارغة، من أصحابها بأثمنة تتجاوز ألفي درهم. عددها يصل اليوم إلى أزيد من أربعين مستودعا ومصنعا قائما بذاته. تتوزع ما بين تلك المخصصة لبيع الرمال، أوصنع قطع الياجور والأسمنت «.قاطنوا الحي الذي أعيد هيكلته بعض أجزائه، بطريقة متسرعة، يشهد على الفوضى. سؤال من المسؤول في بقاء الوضع على حاله كل هذه المدة، يتردد بقوة. الوعود المتكررة التي قدمت إليهم لم تشفع لهم في تخليصهم من هاجس الخوف، الذي يسكنهم « لاندري ما هي نوع التراخيص التي يتوفر عليها هؤلاء.. » يتساءل أحدهم. لكن «خطر الشاحنات ليس بالجديد، وإزعاجها لايتوقف » هكذا تضيف شهادات السكان . أحد المسؤولين المحليين، اعترف أمام الغاضبين بالقول « للأسف معظم هذه المستودعات لاتتوفر على تراخيص واضحة ». تواجدها بكثرة يجعل أزقة الحي رغم ضيقها ممر لأعداد من الشاحنات المحملة بالاسمنت و الآجور و غيرها من مواد البناء. أمام غياب فضاءات للعب، فإن أطفال الحي الذين لايجدون أمامهم من ملجأ للعب سوى الأزقة وأمام ابواب منازلهم، يجعلهم عرضة لهذه الحوادث الخطيرة. وضعية فوضى المستودعات لخصها أحد سكان الحي بالقول « هناك بقعة أرضية، حرم صاحبها من رخصة للبناء لالشئ إلا لكونها الممر الوحيد المؤدي الى أحد المستودعات، حيث سيتسبب بناء المنزل في إغلاق الطريق على الشاحنات». مصادر محلية أكدت أنه عقب الحادث، تحركت مصالح العمالة، من خلال لجن وعاينت وضعية الحي، واتخذت قرارا أوليا في منع الاتجاه المزدوج بحي الفواراة.. كحل مؤقت. أما نوع التراخيص « فإن عددا منها مسلم لغاية واحدة، وهي بيع لمواد.. لكن ليس بنفس الطريقة المعتمدة حاليا .. وبنفس الحجم الذي يتسارع يوما بعد يوم» يضيف نفس المصدر. المعارضة داخل المجلس البلدي المحلي، لم تقف مكتوفة الأيدي وهي تتابع هذه الوضعية، محمد حداق، أحد أعضائها صرح بالقول « وعيا منا بهذا الوضع قمنا وأثناء بتقديم مقترحاتنا بخصوص تصميم التهيئة الجديد للمدينة، يرمي إلى نقل هذه المستودعات إلى خارج المدينة، في أمكنة مستقلة، تستجيب لكافة شروط السلامة.. مثلما ماهو معمول به في مدن أخرى.. كالدارالبيضاء والقتيطرة..» المسؤول أضاف.. « أن جهات ما لها مصلحة في بقاء الوضع على حاله، من خلال استغلال هذه الأحياء غير المهيكلة في مناسبات انتخابية.. دون مراعاة هذه الأضرار». تساؤلات المسؤول ، تنضاف إلى القلق والحيرة، اللتين لازالتا بادية على وجوه القاطنين خاصة والد «هبة»، كان هذا الأخير وبعد أن أعياه التنقل إلى مراكز الأمن بحثا عن الحقيقة يردد بيأس « هادي راها جريمة .. بغينا نعرفوا شكون لي قتل وشكون المسؤول عليها..».