مثل صناعة المصبرات في علب مختلفة الشكل واللون، يتم تصنيع الفوضى لأهداف نعلم بعضها، ويعلم الباقي منها أهل الحل والعقد، ويعلمها القائمون على رسم الإستراتيجيات، وتحديد ما يجب وما لا يجب أن يكون، ويعلمها العارفون بالدين والدنيا، أصحاب ما وراء الستار، وما يحدث في الكواليس . لقد تم إعطاء اطلاقة العد العكسي للربيع العربي، كي يكون أسرع ربيع، وكي تذبل سريعا أوراقه التي لم تينع بعد،فيختلط مبكرا بالخريف، وتأسف الأنفس لليوم الذي فكرت فيه بالقيام على القائمين عليها جورا . من غير اللائق، وفي مجال التحليل السياسي، عدم استحضار السياق العام للأحداث، فالحدث ليس قائما بذاته فقط، إنما يقوم على سلسلة من الأحداث المتداخلة، وما يمكننا أن نقوله عن فيلم «براءة المسلمين» هو أنه تتويج لمسار من الأحداث التي تجس النبض، والتي تعمل على تصنيع الفوضى . فيلم براءة المسلمين الذي أساء للإسلام ولنبي الإسلام، ليس حدثا سينمائيا، وليس منتوجا فنيا، إنه مناورة سياسية جديدة تهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف، لأنه، لا السياق العام لظهوره، ولا توقيته المتزامن مع تاريخ 11 شتنبر -مع ما لهذا التاريخ من رمزية ومن ذكرى متوترة – ولا الأمل الديمقراطي الذي بدا يهل على بلدان الربيع العربي … هذه النقط كلها لا تجعله يبدو بريئا، ولا تجعله يبدو تعبيرا عن صياغة فنية، هذه الحيثيات تعمق خطه السياسي الذي يطمح، وفي عبارة بسيطة، إلى تأكيد فكرة صراع الحضارات. إني على يقين أن لحظة التفكير في الفيلم، وبهذه الصياغة التي ظهر بها، هي لحظة السعي لإنتاج الفوضى، فالعالم جميعا قد شهد، في إساءة سابقة لنبي الإسلام، مدى التواصل الوجداني، ومدى التوافق الروحي للمسلمين حول نبيهم، لقد أظهرت الاحتجاجات في حينها، أن الثوابت الدينية، حين يتم المساس بها، تكون النتيجة هي حالة من الاضطراب العام، إنه الشعور الجمعي عند المسلمين الذي يجعل مس مقدساتهم بمثابة إعلان حرب عليهم … إن كانت هذه حقائق – أعجبتنا أو لم تعجبنا – قائمة، ونجزم أن أغلب الأجانب على دراية بها، فلما إعمال الإهانة والسخرية من ثوابت الدين الإسلامي؟. ليس في الأمر أية حرية عندما يكون هدفها هو السب، وليس فيه أي دفاع عن الحق في التعبير الفني، لأن المسألة متعلقة بالقدرة على عدم جعل الفن سببا لمضايقة مليار وأربعمائة مليون مسلم . يجب الاعتقاد بخطوط توقف حينما يتعلق الأمر بالمعتقدات الدينية للآخرين، خصوصا، حين لا يتم انتقادها بل السخرية منها، وسواء آمنا بها أو لم نؤمن بها، فإن حقيقة أن ملايين يؤمنون بها إيمانا مطلقا هي حقيقة لا تزول-قائمة في هذه اللحظة – …. هذا ما فهمه دعاة التحاور والتجاور، حتى من الفنانين والسينمائيين، الذين لا يسقطون المعتقد الديني عن مواضيع إنتاجاتهم، ويجعلونها ما أمكن وسائل للتقارب . لكن، وكما دائما، يحدث أن يكون الفاعل -في هذه الحالة الفاعل الفني- متطرفا، يعيش حالة من تضخم ثقافته المتفوقة، مستصغرا ما أمكنه باقي الثقافات المجاورة، فهي عنده ليست أكثر من هوامش يستأنس بها، ولا تعيش إلا بفضل ما تجود به ثقافته عليها … إن شئنا توصيفا دقيقا للمتطرف -كيفما كان مجال تطرفه- فهو ذلك الذي لا يرى حياة أخرى في غير ثقافته التي نشأ فيها، هذه الصورة لا تخلو منها حضارة ما، وهي قائمة دائما في كل الثقافات بأشكال مختلفة … سوء هذه الصورة يتجلى حين يكون وراء المتطرف جهاز سياسي يدعمه، ووراءه قوة مالية تعطيه القدرة على إنتاج الصورة – كما في حالة فيلم براءة المسلمين- التي تنتشر سريعا، وتجد الشروط المناسبة لخلق حالة من التوتر، توتر له هدف واحد ووحيد وهو؛ إعادة إنتاج صورة المسلم المنفعل، المسلم غير المفكر، المسلم المستعد للاقتتال في أية لحظة . يتحول دور الفن، خصوصا، حين ينطلق من انغلاق ثقافي، ومن تبني أحادية فكرية متفوقة -في حالة فيلم براءة المسلمين تتمثل الثقافة المتفوقة في الثقافة الغربية بأصولها اليونانية الهلنستية كثقافة رائدة – إلى دور كابح حضاري، يسعى إلى الإصطدام الدائم، وليس تبرير حرية التعبير الفني بكاف، كما يدعي أصحاب هذه الإنتاجات الصدامية، من أجل إعطائها جواز التواجد … ففي حالة فيلم براءة المسلمين لم يوجه الفيلم للمشاهد الغربي، وإن وجه له فموضوعه موضوع خاص بالمشاهد المسلم، ونحن بأي حال لا يمكننا أن نقارن بين المشاهدين الاثنين، ولا يمكننا أن نقارن حدة ارتباطهما بمعتقداتهما، ولا بأفكارهما حول الفن عموما … على أساس هذا التباين في الرؤى بين المشاهدين، يمكننا أن نفهم تجاوب المسيحيين مع فيلم مثل «شفرة دافنشي» رغم أنه يسيء إلى المسيح، ويتخذ له مرجعا إنجيل باربرا الممنوع، والذي يتحدث عن نسل المسيح وغيرها من أمور لم تأت بها الأناجيل الأربعة الأخرى … وعلى هذا الأساس نفسه يجب أن يفهم منتجو هذه العينة من الأفلام، وهذا النوع من الفن، أنه قبل عملية الإنتاج يجب التفكير في الموضوع بارتباط تام مع المشاهد ؛ فالمشاهد المسلم شديد الحساسية للمواضيع التي تمس معتقده الديني … إذن، لما اللجوء، عن سبق تخطيط، لمثل هذه الإنتاجات ؟. الجواب عن هذا السؤال، قلنا إنه يكمن في الهدف من الفيلم، فالهدف العام من الفيلم، ليس بصيغة فنية أو سينمائية، إنما بصيغة سياسوية متأدلجة، مع إضافة نزعة التصادم الديني، التي لها أنصارها الكثر . إن التوقيت والسياق العام يمنحان الفيلم صك الاتهام المباشر، والتهمة واضحة؛ السعي لإنتاج الفوضى كما تنتج أقراص الأسبرين في بلدان محددة بالقلم الأحمر، خصوصا، أن العاطفة الدينية، والتعلق الكبير بالمقدسات الدينية من طرف المسلمين، يجعلان فكرة الاحتجاج والدخول في فوضى عارمة دفاعا عن هذه المعتقدات، أمرا لا فكاك منه . على مستوى التقنية الفنية، تكون أغلب الأعمال الفنية الصدامية ضحلة المستوى، وهذا ما نعتقده في فيلم براءة المسلمين -رغم أني لست ناقدا سينمائيا – ، لأن فكرته التي تحدد مساره ليست هي الدقة الفنية أو الإبداع السينمائي، إنما هي تحقيق مبتغى الصراع والتصادم … والاحتجاج ضد هذا الفيلم، وضد أمثاله من الإنتاجات السنمائية والفنية، هو ما يرفع أسهمها في السوق، ويجعلها حديث الجميع ، في هذه الناحية علينا أن نتحدث عن سلوك المحتج المسلم، والذي بسبب ارتباط الوجدان عنده بالمعتقد الديني بشكل كبير، يضخم بشكل لا عقلاني وسائل وطرائق إحتجاجه . لقد احتج المسلمون في أغلب بلدان العالم الإسلامي ضد الفيلم المسيء لدينهم ولشخصياتهم الدينية، والمسيء لهم كذوات – باعتبار عدم فصل المسلم بين ذاته الشخصانية وانتمائه الديني-، وفعل الاحتجاج مفهوم ومقبول، فهو حق، وهو تعبير عن مدى الإساءة التي تم تكثيفها في مشاهد الفيلم وفي لقطاته المتعددة، لكن ما طمح له الفيلم ، وما طمح له القائمون على الفيلم، وما طمح له الجانب الخفي المتطرف سياسيا ودينيا، قد تم تحقيقه عندما تحول الاحتجاج من فعل سلمي مشروع إلى فعل عنيف غير مشروع، وإلى فعل إضرام نار، وإلى فعل تخريب ، وإلى اقتحام القنصليات والسفارات، وإلى الدخول مع جهاز الأمن في معارك … لقد قلنا إن غاية أمثال هذه الإنتاجات السينمائية والفنية هو أكثر من مجرد تمثيل، إنها تغور في الصراعات التي يحملها المتطرفون، وتتعمق في فكرتهم عن استئصال الآخر، لذا كان هذا الفيلم هو إنتاج الفوضى، وإظهار المسلم كعدو، وكفرد بمرجعية ثقافية وفكرية ودينية غير حضارية. في بنغازي جاءت حصيلة الإحتجاج ضد الفيلم ثقيلة، وأنا على يقين تام أن الإعلام الغربي – في جانبه غير المهني وغير المحترف – لن يسوق الفعل الذي يتمثل في إنتاج الفيلم المسيء للدين الإسلامي، إنما سيسوق رد الفعل المتمثل في قتل السفير الأمريكي وثلاثة موظفين آخرين، وسيسوق حرق الأعلام الأمريكية والإسرائيلية، وسيسوق اقتحام القنصليات والسفارات … لأنهم أولا وأخيرا ينطلقون من مرجعيتهم الفكرية ،والتي تعتبر أن الفيلم، ومهما أساء وجاوز حدود التعبير الفني، فإنه يظل مجرد فيلم، في حن أن الاحتجاج بطريقة غير سلمية، وسفك الدماء، أمر سيتعدى الإساءة نفسها لعدم توافق الفعلين … إنهم لا يتناقضون مع فكرهم في الغالب، لكنهم يقصون فهمنا وطرق تفكيرنا . ليس الحل في احتجاجات يتزعمها في الغالب أشباه المثقفين والأميين، وبوش عريض من الغوغاء، والعازفين على وتر العاطفة الدينية … إننا نكبد بلداننا خسائر فادحة بفعل هذا التخريب غير العقلاني، ونظهر صورة، تتعمق يوما بعد يوم، على أننا حاملو سيف ولسنا حاملي قلم وأغصان زيتون . هناك أكثر من وسيلة احتجاج حضاري، وأكثر من طريقة ضغط لإيصال صوت عدم الرضا عن الفيلم، لكن، وللأسف، لا تمتلئ الساحة اليوم، إلا بنفس العناصر التي تخدم أجندات أصحاب الفيلم والجهات القائمة عليه، لنظهر لهم كم نحن مغفلون، وكم نحن صنيعة للفوضى، وكم نحن مستعدون لخلق توترات جديدة في مناطقنا المليئة بالتوترات الدائمة. كان بإمكاننا أن نرفع أمام الفيلم المسيء فيلما آخر يضحده، ويظهر ما أخفاه وما قام بتحويره. كان بالإمكان رفع دعوى قضائية ضده . كان بالإمكان أن نرفع ضده أقلام تكتب بكل اللغات، كان بالإمكان أن نرفع ضده ألسن فصيحة تحاجج بالعقل … إننا اكتفينا، وسنكتفي، برفع عقائرنا بالصياح، وسنحمل السيوف وسط الاحتجاجات، وسنحيي العصبية الجاهلية، ونحن نعتقد أننا ندافع عن الدين.