كما هو معلوم ، تعرض مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي الليبية ليلة 11 سبتمبر الجاري لهجوم بصاروخ وإضرام للنيران ونهب لمحتوياته من قبل من باتوا يسمون أنفسهم "بأنصار الشريعة" احتجاجا على عرض فيلم يسيء إلى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ؛ ونجم عن هذا الاعتداء الجبان والإجرامي على مقر القنصلية مقتل السفير الأمريكي كريس ستيفنس وثلاثة من موظفي القنصلية ، فضلا عن 10 من رجال الأمن الليبي . وبالقدر الذي صدم هذا الحادث الإجرامي كل الأمريكيين ، بالقدر الذي جعلهم يتجرعون المرارة من كون هذا الفعل يحدث في مدينة بنغازي التي أنقذتها ، في آخر لحظة ، الإدارة الأميركية من الدمار على يد قوات القذافي التي كانت على مشارف المدينة مدججة بأشد الأسلحة فتكا . وهذا ما عبرت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية ، هيلاري كلينتون ، في المؤتمر الصحفي الذي عقدته عقب الحادث ، حيث تساءلت "كيف يحدث هذا في مدينة حميناها من الدمار ؟" . فالأمريكيون لم يستسيغوا أن يصدر من الليبيين إجرام من هذا النوع وهم الذين حرروهم من أعتى الديكتاتوريات التي قهرتهم على مدى 42 سنة . أيا كانت دوافع هذا الفعل الجبان الذي استهدف بعثة دبلوماسية مستأمنة ، فإنه عمل يسيء إلى الإسلام والمسلمين ، ويكرس الصورة السلبية التي رسمتها أحداث 11 سبتمبر 2001 عن المسلمين . فإذا كان الفيلم السينمائي الذي يسيء إلى الرسول محمد (ص) قد أغضب المسلمين جميعا ، فإنه لم يكن ليصل الأمر إلى حد قتل الأبرياء المستأمنين . بل إن قتلهم يعطي للغرب ولأصحاب الفيلم ألف ذريعة تبرر تهجمهم على معتقدات المسلمين ورموزهم الدينية . وهذا ما عبر عنه مخرج الفيلم في حوار معه (من قام بهذا الفعل أناس غوغائيون "حرامية". لدي سؤال لهؤلاء الأشخاص: أنتم تدافعون عن رسولكم فلماذا تسرقون؟ لقد اقتحموا السفارات ثم نهبوها). ذلك أنه إذا كان الفيلم ينتقد القتل باسم الدين ، فها هم المتشددون يعطون الدليل الملموس على أن موضوع الفيلم ينقل واقعا حقيقيا وليس افتراضا ولا افتراء، إذ كيف سيدافع هؤلاء المجرمون عن قتلهم السفير الأمريكي وثلاثة من موظفي القنصلية بمبرر الانتقام للرسول (ص) والدفاع عنه ؟ إن الإسلام بريء من هذه الأعمال الإجرامية التي تستهدف الأبرياء . فالإسلام عصم دماء المستأمنين وحرم تحميل الأبرياء جريرة غيرهم " ولا تزر وازرة وزر أخرى"؛ بل حرّم حتى سبّ الذين لا يؤمنون بالله ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) . والسفير الأمريكي لا هو مخرج الفيلم ولا هو كاتب السيناريو ولا هو مموله . فكيف سيتحمل مسئولية عمل لم يقترفه ولا ذنب له فيه ؟ كما أن الحكومة الأمريكية لا يد ولا دخل لها في الترويج لهذا الفيلم ، فهي لم تنتجه ولم ترخص له . ولو افترضنا المعاملة بالمثل لحق لأمريكا أن تعاقب الشعبين المصري والسعودي لانتماء بن لادن والظواهري إليهما وهما زعيما تنظيم القاعدة. إن الدفاع عن الإسلام وعن الرسول الكريم لا يتم ابدا بالإجرام والقتل والاعتداء على أعراض ودماء الأبرياء . بل المسلمون بحاجة إلى تصحيح الصورة التي شوهتها الاعتداءات الإرهابية ل11/9 ، وجعلت الغرب يعادي المسلمين ويسيء فهم عقيدتهم التي لا يرى فيها سوى القتل والترويع والتعطش للدماء. بالتأكيد لا توجد وسيلة واحدة للاحتجاج على أي عمل يسيء إلى رموز المسلمين ومقدساتهم، بل وسائل سلمية شتى يمكن أن تحقق الهدف وتوصل الرسائل إلى من يهمهم الأمر . وكان حريا بالمتشددين من المسلمين أن يرحموا أمتهم ودينهم من هذه الجهالة الحمقاء ؛ وليدركوا أنهم أكثر وأشد إساءة للدين من غيرهم . فالمسلمون بحاجة إلى الحكمة في الاحتجاج وفي الدفاع عن قضاياهم السياسية والدينية ، وليس ركوب العنف والكراهية . كما على المسلمين أن يدركوا أن قوانين الدول الغربية لا تقيد حرية الفكر والفن ، وهي نفسها القوانين التي تحمي شيوخ التيارات المتطرفة وتمنع الحكومات الغربية من تسليم هؤلاء الشيوخ الذين يحرضون على العنف ضد الأبرياء ، إلى دولهم لمحاكمتهم. كما على المسلمين أن يعلنوا إدانتهم للتيارات المتشددة والأعمال الإجرامية التي يرتكبونها باسم الدين ، وأن يتبرءوا منهم . فالمتطرفون لا يمثلون الإسلام ولا المسلمين . وبالتالي لا ينبغي ترك المجال مفتوحا أمامهم ليقودوا جموع المحتجين وعموم المسلمين إلى الهاوية وارتكاب الأعمال البشعة . أليس من المخجل أن يرفع المحتجون أمام القنصلية الأمريكية بالبيضاء شعار "أوباما أوباما .. كلنا أسامة" ؟؟ . من هنا ، يتوجب الانتباه إلى الأطراف التي تسعى لزرع الفتنة بين فئات المجتمع، خاصة الذي يضم طوائف مسيحية، أو خلق الصراع بين الدول العربية وأمريكا على الخصوص . وهذا الذي هدف إليه مخرج الفيلم موضوع الاحتجاج من وراء توظيف عناصر مسيحية مقيمة في المهجر للإساءة إلى الرموز الدينية للمسلمين . وقد نحج في تحقيق هدفيه :الأول جعل الأمريكيين يشعرون بأنهم مستهدفون من طرف المسلمين مهما فعلوا لصالح بعض الشعوب التي تحررت من الدكتاتورية. ومن شأن هذا الإحساس أن يزيد من عداء الأمريكيين للعرب وللمسلمين، كما يقوي دعمهم لإسرائيل وحمايتها من "الخطر" الذي يحذق بها من كل جانب. ولا شك أن الشعرات التي يرفعها المحتجون في معظم الدول العربية ، تعكس مشاعر السخط والكراهية لأمريكا . كل هذه المشاهد من الهيجان والسعار اللذين تملكا الجموع الغاضبة وأفقدها الحكمة والتبصر ترسخ صورة "الهمجية" لدى المسلمين التي روج لها الفيلم. أما الهدف الثاني الذي يهدف إليه صاحب الفيلم فيتمثل في إثارة الفتنة الطائفية في مصر بالخصوص لثقلها الديموغرافي والسياسي في العالم العربي فضلا عن حدودها المشتركة مع إسرائيل.الأمر الذي سيشغلها عن الاضطلاع بأدوارها القومية والوطنية. وقد نجح الفيلم في دفع سلفيي مصر إلى اتخاذ موقف عدائي من اقباط المهجر ، وقد تكون مقدمة للصراع الطائفي ، وفق ما جاء في بيان الدعوة السلفية المصرية ، حيث أثار بالتحديد (هذا الانحياز الواضح يمثِّل دليلاً إضافيًّا على أن منظمات أقباط المهجر في الأعم الأغلب وقعت فريسة للصهيونية العالمية التي تتخذ من بلاد الغرب عامة "ومن أمريكا خاصة" مرتعًا لتجنيد بائعي ضمائرهم، والذين ربما تستروا بأنهم يدافعون عن قضية أبناء دينهم؛ ولو كانوا كذلك لما أقاموا في بلاد الغرب يشعلون الفتن من بُعد، وهم في مأمن من أن يصيبهم من لهيبها.) . ويفهم من البيان أنه إعلان حرب على أقباط المهجر ؛وإذا لم تتخذ السلطات المصرية ما يلزم من الاحتياطات فقد تتطور الأمور إلى تهديد التعايش السلمي بين الأقباط والمسلمين . كما يتوجب الموقف من هيئات علماء المسلمين والمجامع الفقهية إصدار بيانات تنهى المحتجين عن رد الإساءة بمثلها أو بأشد منها ، وتحذرهم من الانجرار وراء دعوات التحريض التي مصدرها المتطرفون لإثارة الفتنة والاحتراب الداخلي أو الطائفي.